” الإستِغفَار ..! “

سَلام الله عَليكم وَ بركاتٌ من عَزيز قَدير
و الحمد لله العزيز الغفار يبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل , و يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار .
أحمده على جزيل فضله و إنعامه و عظيم كرمه و إحسانه و الصلاة و السلام على نبيه المصطفى و رسوله المجتبى محمد صلى الله عليه و آله و صحبه و سلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين و بعد :

إن الإستِغفار لنِعمة جَليلة أنعمَها علينَا القَدير لدركِ المراد و بُلوغ المقَاصد , وَ لِتحقيق مأربنَا بما يرضي الرحمان بهذه الحياة الدنيوية , وَ لهو العِلاج الشّافي بعون الله تعالى لمشاكل بني أدم النّفسية , الإجتماعية و الإقتصادية إذا عرف كيفية تسخيره له بطريقةٍ ينتفع بها حتّى تطأه الرّحمة , السّكينة و الفرج لكلّ همّ وَ غَم بإذن الواحد الجليل .

* تَعريف الإستِغفَار :

الاستغفار مصدر من إستغفر يستغفر , و مادته ” غفر ” التي تدل على الستر , و الغفر و الغفران بمعنى واحد يقال غفر الله ذنبه غفراً و مغفرةً و غفراناً .

قال الراغب : الغفر إلباس ما يصونه عن الدنس و منه قيل إغفر ثوبك في الدعاء , و الغفران و المغفرة , من الله هو أن يصون العبد من أن يمسه العذاب , و الاستغفار طلب ذلك بالمقال و الفعال و قيل إغفروا هذا الأمر بمغفرته أي استروه بما يجب أن يستر به .

و الغفور و الغفار و الغافر من أسماء الله الحسنى و معناهم الساتر لذنوب عباده المتجاوز عن خطاياهم و ذنوبهم .

قال الغزالي : الغفار هو الذي أظهر الجميل و ستر القبيح , و الذنوب من جملة القبائح التي سترها بإسبال الستر عليها في الدنيا والتجاوز عن عقوبتها في الآخرة .

و قال الخطابي : الغفار هو الذي يغفر ذنوب عباده مرة كلما تكررت التوبة من الذنب تكررت المغفرة , فالغفار الساتر لذنوب عباده المسدل عليهم ثوب عطفه و رأفته فلا يكشف أمر العبد لخلقه و لا يهتك ستره بالعقوبة التي تشهره في عيونهم .

* ماهيَة الإستغفَار وَ أسبَابه :

الإنسان ليس معصوماً من الخطأ و إقتراف الذنب بحكم طبيعته البشرية , و أيضاً فإن أعداؤه كثر : منهم النفس التي تسكن بين جنباته و تزين له و تأمره بالسوء قال تعالى : ( إن النفس لأمارةٌ بالسوءِ إلا ما رحم ربي ) و منهم الشيطان العدو اللدود الذي يتربص بالإنسان ليورده موارد التهلكة , و منهم الهوى الذي يصد عن سبيل الله , و منهم الدنيا بغرورها و زخرفها , و المعصوم من عصمه الله , ناهيك عن الغفلة و الفتور عن الطاعة و التقصير في جنب الله , لذا قال النبي صلى الله عليه و سلم فيما يرويه أبو هريرة – رضي الله عنه – : ” و الذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله تعالى بكم و جاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم ” .

و قال في موضع آخر : ” كل بني آدم خطاءٌ و خير الخطائين التوابون ” و لكن هناك مسألة لا بد من الانتباه إليها و هي أن كثيراً من الناس يعتقد أن الاستغفار يكون باللسان فَقط , يقول أحدهم : ” إستغفر الله ” .. ثم لا يوجد لهذه الكلمات أثر في القلب كما لا يشاهد لها تأثير على الجوارح و مثل هذا الإستغفار في الحقيقة فعل الكذابين .

قال الفضيل بن عياض – رحمه الله – : ” إستغفار بلا إقلاع عن الذنب توبة الكذابين ” و كان أحد الصالحين يقول : إستغفارنا يحتاج إلى إستغفار أي : أن من إستغفر الله و لم يترك المعصية فإستغفاره يحتاج إلى إستغفار , فلننظر في حقيقة إستغفارنا لئلا نكون من الكاذبين الذين يستغفرون بألسنتهم و هم مقيمون على معاصيهم .

* أَقوَال السّلف فِي الإستِغفَار :

– قال أبو موسى – رضي الله عنه – : كان لنا أمانان من العذاب ذهب أحدهما – و هو الرسول صلى الله عليه و سلم – فينا و بقي الاستغفار معنا فإن ذهب هلكنا .

– و قال الربيع بن خثيم : ” تضرعوا إلى ربكم و أدعوه في الرخاء فإن الله قال : من دعاني في الرخاء أجبته في الشدة و من سألني أعطيته و من تواضع لي رفعته و من تفرغ لي رحمته و من إستغفرني غفرت له ” .

– و سئل سهل عن الإستغفار الذي يكفر الذنوب فقال : ” أول الإستغفار الإستجابة ثم الإنابة ثم التوبة فالإستجابة أعمال الخوارج و الإنابة أعمال القلوب و التوبة إقباله على مولاه بأن يترك الخلق ثم يستغفر الله من تقصيره الذي فيه ” .

– قال إبن الجوزي : ” إن إبليس قال : أهلكت بني آدم بالذنوب و أهلكوني بالإستغفار و بـ ( لا إله إلا الله ) فما رأيت منهم ذلك ثبت فيهم الأهواء فهم يذنبون و لا يستغفرون لأنهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً ” .

– قال قتادة – رحمه الله – : ” إن القرآن يدلكم على دائكم و دوائكم أما داؤكم فالذنوب و أما دواؤكم فالإستغفار ” .

– و قال علي – كرم الله و جهه – : ” العجب ممن يهلك و معه النجاة قيل : و ما هي ؟ قال الإستغفار ” .

– و كان – رضي الله عنه – يقول ما ألهم الله – سبحانه و تعالى – عبداً الإستغفار و هو يريد أن يعذبه ” .

– و قال أحد الصالحين : ” العبد بين الذنب و نعمة لا يصلحهما إلا الحمد و الإستغفار ” .

– و يروى عن لقمان – عليه السلام – أنه قال لإبنه : ” يا بني إن لله ساعات لا يرد فيها سائلاً فأكثر من الإستغفار ” .

– و عن عائشة – رضي الله عنها – قالت : ” طوبى لمن وجد في صحيفته إستغفاراً كثيراً ” .

– و قال أبو المنهال : ” ما جاور عبد في قبره من جارٍ أحب من الإستغفار ” .

– و كان الحسن البصري يقول : ” أكثروا من الإستغفار في بيوتكم , وعلى موائدكم و في طرقكم و في أسواقكم و في مجالسكم فإنكم لا تدرون متى تنزل المغفرة ؟ ”

– و كان أعرابي يقول : ” من أراد أن يجاورنا في أرضنا فليكثر من الإستغفار , فإن الإستغفار القطار ” و القطار السحاب العظيم القطر .

– و قال بكر بن عبدالله المزني : ” أنتم تكثرون من الذنوب فأستكثروا من الإستغفار , فإن الرجل إذا وجد صحيفته بين كل سطرين إستغفاراً سره مكان ذلك ” .

– و قال إبن تيمية – رحمه الله – : ” إنه ليقف خاطري في المسألة التي تشكل عليّ فأستغفر الله ألف مرة حتى ينشرح الصدر و ينحل إشكال ما أشكل , و قد أكون في السوق أو المسجد أو المدرسة لا يمنعني ذلك من الذكر و الإستغفار إلى أن أنال مطلوبي ” .

* أَحوالُ وَ أوقَاتٍ يُستحَب فيهَا الإستغفَار :

الإستغفار مشروع في كل وقت , و هناك أوقات و أحوال مخصوصة يكون للإستغفار فيها مزيد فضل و من هذه الأوقات :

– بعد الفراغ من أداء العبادات : و يستحب الإستغفار لما يقع فيها خلل أو تقصير في أداء العبادة قال الله عز و جل : ( ثُمَّ أَفِيضُواْ مِن حَيثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَ إستَغفِرُوا اللَّهً إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) .

وهذه الآية الكريمة جاءت في الحديث القرآني عن الحج خاصة بعد طواف الإفاضة فهنا يأتي الإستغفار لما يكن قد حدث من خلل أو تقصير في أداء العبادة .

كما شرع الإستغفار بعد الفراغ من الصلوات الخمس فقد كان النبي صلى الله عليه و سلم إذا سلم من الصلاة المفروضة يستغفر الله ثلاثاً لأن العبد عرضة لأن يقع منه نقص في صلاته بسبب غفلة أو سهو .

– الإستغفار بالأسحار : قد أثنى الله عز و جل على عباده الذين يستغفرون في هذا الوقت المبارك بقوله عز و جل : ( الصَّابِريِنَ و الصَّادِقِينَ و القانِتِينَ و المُنفِقِينَ و المُستَغفِرِينَ بِالأَسحَارِ . و قال عز و جل : ( كَانُوا قَلِيلاً مِّن الَّيلِ مَا يهجَعُونَ * و بِالأسحَارِ هُم يَستَغفِرُونَ ) .
و قد جاء في تفسير قوله عز و جل حكاية عن يعقوب – عليه السلام – : ( قَالَ سَوفَ أَستَغفِرُ لَكُم رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ ) أنه أخر الإستغفار إلى وقت السحر و السبب في فضلية هذا الوقت أن الله عز و جل يستجيب فيه الدعاء و يعطي فيه السائل و يغفر فيه للمستغفر .

عن أي هريرة – رضي الله عنه – أن الرسول صلى الله عليه و سلم قال : ” ينزل ربنا كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول : من يدعوني فأستجيب له ؟ من يسألني فأعطيه ؟ من يستغفرني فأغفر له ” .

عن خالد بن معدان : ” يقول الله عز و جل إن أحب عبادي إلي المتحابون بحبي المتعلقة قلوبهم بالمساجد و المستغفرين بالأسحار ” .

– في ختم المجالس : و ذلك عندما يقوم الإنسان من مجلسه خاصة إذا كان مع إخوانه أو في إجتماع أو في عمله , لحديث عائشة – رضي الله عنها – قالت : ما كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يقوم من مجلس إلا قال : ” سبحانك اللهم ربي و بحمدك , لا إله إلا أنت أستغفرك ربي و أتوب إليك ” , فقالت يا رسول الله ما أكثر ما تقول هؤلاء الكلمات إذا قمت قال : ” لا يقولهن من أحد حين يقوم من مجلسه ! إلا غفر له ما كان في ذلك المجلس ” .

فهذه فرصة عظيمة ينبغي ألا يغفل عنها المسلم خاصة في مجالسنا التي يكثر فيها الكلام و يقع من الإنسان فيها ما الله به عليم .

– الإستغفار للأموات : كان النبي صلى الله عليه و سلم إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه فقال : ” إستغفروا لأخيكم و سلوا له التثبيت , فإنه الآن يسأل ” .

فما أحوج الميت في هذا الموقف العصيب إلى الإستغفار و طلب المغفرة من الله عز و جل له لذا كان النبي صلى الله عليه و سلم يستغفر للأموات إذا زارهم و وقف على قبورهم .

* دُرر مِن فَضائِل الإستِغفار :

– أنه طاعة لله عز وجل .

– أنه سبب لمغفرة الذنوب لقوله تعالى : فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً .

– و نزول للأمطار فِي قوله تعلى : يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَاراً .

– الإمداد بالأموال و البنين فِي قوله تعالى : وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ .

– دخول الجنات لقوله تعالى : وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ .

– زيادة القوة بكل معانيها فِي قوله تعالى :وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ .

– المتاع الحسن فِي قوله تعالى : يُمَتِّعْكُم مَّتَاعاً حَسَناً .

– دفع البلاء بقوله تعالى : وَمَا كَانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ .

– وهو سبب لإيتاء كل ذي فضل فضله بقوله تعالى : وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ .

– العباد أحوج ما يكونون إلى الإستغفار , لأنهم يخطئون بالليل و النهار , فإذا إستغفروا الله غفر الله لهم .

– الإستغفار سبب لنزول الرحمة لقوله تعالى : لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ .

– وهو كفارة للمجلس –

– وهو تأسٍ بالنبي , لأنه كان يستغفر الله في المجلس الواحد سبعين مرة , وفي رواية : مائة مرة .

– أنه يفتح أبواب الرزق لقوله تعالى : الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده و يقدر له .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى