صلاح القلوب

صلاح القلوب

القلوب إذا صلحتْ صلحت أعمالنا، وصلحت أحوالنا، وارتفعت كثيرمن مشكلاتنا. وإذا فسدت هذه القلوب التي هي القائدة للأبدان والجوارح فسدت أعمالالعبد، واضطربت عليه أحواله، ولم يعد يتصرف التصرف اللائق الذي يرضي ربه ومولاه؛فخسر الدنيا والآخرة
. قال النبي – صلى الله عليه وسلم
-)أَلَا وَإِنَّ فِيالْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْفَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ)
. أخرجه البخاري في كتاب الإيمانباب فضل من استبرأ لدينه 1/ 28- 52 ومسلم في كتاب المساقاة باب أخذ الحلال وتركالشبهات 3/ 1219- 1599

والله عز وجل يقول
: (فَإِنَّهَا لَا تَعْمَىالْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُور) سورة الحج 46.

والقلب ما سمي قلباً إلا لكثرة تقلبه، فهو كثير التقلب بالخواطروالواردات والأفكار والعقائد، ويتقلب كثيراً على صاحبه في النيات والإرادات، كماأنه كثير التقلب من حالٍ إلى حال، يتقلب من هدى إلى ضلال، ومن إيمان إلى كفر أونفاق، ولهذا كَانَ النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – يُكْثِرُ أَنْيَقُولَ
: ((يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ)
) أخرجهالترمذي 4/ 448- 2140 وأحمد 3/ 112- 12128 وصححه الألباني في صحيح الترمذي 3/ 171- 2792.

وكذا يقال له: الفؤاد لكثرة تفؤده، أي كثرة توقده بالخواطر والإراداتوالأفكار، والإنسان قد يستطيع أن يُصِّم أذنه فلا يسمع، وقد يستطيع أن يغمض عينهفلا يبصر، ولكنه لا يستطيع أن يمنع قلبه من الفكر والنظر في الواردات والخواطر، فهيتعرض له شاء صاحبها أم أبى، ولهذا قيل له فؤاد: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَوَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا { سورة الإسراء 36.

مـا سمي القـلب إلا مـن تقلبه *** والرأي يصرف بالإنسانأطواراً

والنبي – صلى الله عليه وسلم- حينما ذكر التقوى أشار بيده – صلىالله عليه وسلم- إلى صدره كما في حديث أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُاللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ –
: (لَا تَحَاسَدُوا – إلى أن قال-: التَّقْوَى هَاهُنَا- وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ)
أخرجه مسلم فيكتاب البر والصلة والآداب باب تحريم ظلم المسلم وخذله واحتقاره ودمه وعرضه وماله 4/ 1986- 2564

و’المرء بأصغريه’، وهما: قلبه ولسانه.

ولما كانت حياةالإنسان الظاهرة متعلقةً بحياة القلب فإن الإنسان لا يمكن أن يعيش على نحو سوي إلابسلامة قلبه، فحياة القلب لها تعلقٌ وثيق مؤثر على أفعاله وتصرفاته المعنوية، وكذاما نسميه بالأمراض القلبية، والإحساسات والمشاعر الداخلية. فالقلب محل الإيمانوالتقوى، أو الكفر والنفاق والشرك وما إلى ذلك.

لذا كان لا بد من الاهتمامبهذا القلب الذي عليه مدار السعادة والفلاح ، أو التعاسة والشقاء ، وتبدو لنا أهميةالحديث عن القلب حين نعلم :

1. أن الله قد أمر بتطهير القلب، فقال تعالى
: ( وَثِيَابَكَ فَطَهِّر)
سورة المدثر (4) والمقصود بالثياب القلب كما هو قول جمهورالعلماء.

2. غفلة كثير من المسلمين عن قلوبهم؛ مع الاهتمام الزائد بالأعمالالظاهرة مع أن القلب هو الأساس والمنطلق.

3. أن سلامة القلب وخلوصه سببللسعادة في الدنيا والآخرة.

4. أن كثيراً من المشاكل بين الناس سببها منالقلوب وليس لها أي اعتبار شرعي ظاهر.

5. مكانة القلب في الدنيا والآخرة،قال عز وجل:
(يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَبِقَلْبٍ سَلِيمٍ
) سورة الشعراء} (88- 89)
. وقال تعالى
: {مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنبِالْغَيْبِ وَجَاء بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ} سورة ق(33).

وعن أبي هريرة – رضيالله عنه- قوله – صلى الله عليه وسلم-:
((إن الله لا ينظر إلى أجسادكم ولا إلىصوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم)) وأشار إلى صدره. يقول الحسن البصري – رحمه الله – : “داو قلبك، فإن حاجة الله إلى عباده صلاح قلوبهم”

وحديث النعمان بن بشيرالسابق : ((ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد كله ألاوهي القلب)).

6. أن من تعريف الإيمان :وتصديق بالجنان. وفي تعريف آخر: عملالجوارح وعمل القلب.

فلا إيمان إلا بتصديق القلب وعمله، والمنافقون لم تصدققلوبهم وعملوا بجوارحهم، ولكنهم لم تنفعهم أعمالهم، بل إنهم في الدرك الأسفل منالنار، قال تعالى
: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِوَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا} سورة النساء(145) .

كلنا يعلم أن القلب ملكالجوارح، وهو كما يقول العز بن عبد السلام: “مبدأ التكاليف كلها، وهو مصدرها، وصلاحالأجساد موقوف على صلاحه، وفساد الأجساد موقوف على فساده” . ولكن قليلاً منا من يقفأمام قلبه فهو يقضي جل وقته في عمله الظاهر.

القلب عالم مستقل، فهوكالبحريحتوي على أسرار عجيبة ، وأحوال متقلبة، سواءً كانت منكرة؛ كالغفلة – الزيغ – الأقفال- القسوة – الرياء – الحسد – النفاق- العجب- الكبر … والنتيجة الطبعوالختم والموت… وصفته أسود.

أو كانت تلك الأحوال والأعمال محمودة؛ كاللين – الإخبات – الخشوع – الإخلاص – المتابعة – الحب – التقوى – الثبات – الخوف – الرجاء- الخشية – التوكل- الرضا – الصبر … والنتيجة السلامة والحياة والإيمان… وصفته أبيض.

قال حذيفة بن اليمان رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى اللهعليه وسلم يقول
: ((تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودا عودا . فأي قلب أشربها نكتفيه نكتة سوداء . وأي قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء . حتى تصير على قلبين ، علىأبيض مثل الصفا . فلا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض . والآخر أسود مربادا ،كالكوز مجخيا لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا . إلا ما أشرب من مراه)
) رواهمسلم.

يقول ابن رجب – رحمه الله – في شرح حديث: (أَلَا وَإِنَّ فِيالْجَسَدِ مُضْغَةً) يقول: “إن فيه إشارة إلى أن صلاح حركات العبد بجوارحه واجتنابهللمحرمات واتقاءه للشبهات بحسب صلاح حركة قلبه، فإن كان قلبه سليماً ليس فيه إلامحبة الله ومحبة ما يحبه الله وخشية الله، وخشية الوقوع فيما يكرهه؛ صلحت حركاتالجوارح كلها، ونشأ عن ذلك اجتناب المحرمات كلها، وتوقي الشبهات حذراً من الوقوع فيالمحرمات، وإذا كان القلب فاسداً قد استولى عليه إتباع هواه، وطلب ما يحبه ولو كرههالله؛ فسدت حركات الجوارح كلها، وانبعثت إلى كل المعاصي والمشتبهات، بحسب إتباعالهوى هوى القلب”.

ومحل نظر الله – عز وجل – هو قلب العبد كما جاء فيالحديث، فإذا صلح قلبه صلحت أعماله، وكان مقبولاً عند الله – عز وجل – وإذا كانالقلب فاسداً، فلربما ركع صاحبه وسجد مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم- وهو فيالدرك الأسفل من النار كعبد الله بن أبي سلول ومن معه من المنافقين، يخرجون مع رسولالله – صلى الله عليه وسلم- في الغزوات، ولربما قدموا شيئاً من أموالهم دفعاًللتهمة عنهم أو حياءً من الناس، ومع ذلك لم تزكُ نفوسهم، ولم تصلح قلوبهم، ولاأحوالهم ولا أعمالهم؛ لأن هذه القلوب قد انطوت على معنى سيء أفسدها، على نجاسةٍكبرى لا تطهرها مياه البحار، وهي الشرك بالله – عز وجل – والنفاق.

كان الحسنالبصري – رحمه الله – يجلس في مجلس خاصٍ في منزله لا يتكلم فيه عن شيء إلا في معانيالزهد والنسك والرقاق والقضايا المتعلقة بالأعمال القلبية، فإن سئل سؤالاً يتعلقبغيرها في ذلك المجلس تبرم، وقال: “إنما خلونا مع إخواننا نتذاكر”.

وهذا يدلعلى أن الإنسان ينبغي ألا يغفل وألا يكون شارداً في زحمة الأعمال – حتى الأعمالالدعوية – ينبغي أن يكون له مجالس يتذاكر فيها مع إخوانه، ترقق قلبه، وتصلح ما فسدمن هذا القلب في زحمة الأشغال كزيارة القبور وذكر الموت، وما إلى ذلك منالأمور.

أخي الحبيب: هناك أمور يتم بها صلاح القلب، وهي كثيرة جداً ومن أعظمالأمور التي تصلح القلب وتحييه:

المجاهدة: يحتاج الإنسان إلى مجاهدة دائمةومستمرة وإلى مكابدة، يقول ابن المنكدر – رحمه الله – وهو من علماء التابعين: “كابدت نفسي أربعين سنة حتى استقامت لي”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى