اجعل نعيم الدنيا يثير شوقك لنعيم الآخرة

انظر كيف فضلنا بعضهم على بعضٍ .. }
(سورة الإسراء)

والمتأمل يجد أن الله تعالى جعل التفضيل هنا عاماً، فلم يبين من المفضل ومن المفضل عليه،
فلم يقل: فضلت الأغنياء على الفقراء،
أو: فضلت الأصحاء على المرضى.

إذن: فمادام في القضية عموم في التفضيل، فكل بعض مفضل في جهة، ومفضل عليه في جهة أخرى، لكن الناس ينظرون إلى جهة واحدة في التفضيل، فيفضلون هذا لأنه غني، وهذا لأنه صاحب منصب .. الخ.
وهذه نظرة خاطئة فيجب أن ننظر للإنسان من كل زوايا الحياة وجوانبها؛ لأن الحق سبحانه لا يريدنا نماذج مكررة، ونسخاً معادة، بل يريدنا أناساً متكاملين في حركة الحياة، ولو أن الواحد منا أصبح مجمعاً للمواهب ما احتاج فينا أحد لأحد، ولتقطعت بيننا العلاقات.
فمن رحمة الله أن جعلك مفضلاً في خصلة، وجعل غيرك مفضلاً في خصال كثيرة،
فأنت محتاج لغيرك فيما فضل فيه، وهم محتاجون إليك فيما فضلت فيه،
ومن هنا يحدث التكامل في المجتمع، وتسلم للناس حركة الحياة.
ونستطيع أن نخرج من هذه النظرة بقضية فلسفية تقول:

إن مجموع مواهب كل إنسان تساوي مجموع مواهب كل إنسان، فإن زدت عني في المال فربما أزيد عنك في الصحة، وهكذا تكون المحصلة النهائية متساوية عند جميع الناس في مواهب الدنيا، ويكون التفاضل الحقيقي بينهم بالتقوى والعمل الصالح،
كما قال تعالى:

{إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير “13” }
(سورة الحجرات)

لذلك يجب على المسلم أن يلتزم أدب الإسلام في حفظ مكانة الآخرين، فمهما كنت مفضلاً فلا تحتقر غيرك، واعلم أن لهم أيضاً ما يفضلون به، وسوف يأتي اليوم الذي تحتاج إليهم فيه.

واضرب لكم بذلك مثلاً بالعظيم الوجيه الذي قد تضطره الظروف وتحوجه لسباك أو عامل بسيط ليؤدي له عملاً لا يستطيع هو القيام به، فالعامل البسيط في هذا الموقف مفضل على هذا العظيم الوجيه. ولك أن تتصور الحال مثلاً إذا أضرب الكناسون عدة أيام عن العمل.

إذن: مهما كان الإنسان بسيطاً، ومهما كان مغموراً فإن له مهمة يفضل بها عن غيره من الناس.

خذ الخياط مثلاً، وهو صاحب حرفة متواضعة بين الناس، ولا يكاد يجيد عملاً إلا أن يخيط للناس ثيابهم، فإذا ما كانت ليلة العيد وجدته من أهم الشخصيات، الجميع يقبلون عليه، ويتمنون أن يتكرم عليهم ويقضي حاجتهم من خياطة ثيابهم وثياب أولادهم.

وبهذا نستطيع أن نفهم قول الحق تبارك وتعالى:

{أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ورحمة ربك خير مما يجمعون “32” }
(سورة الزخرف)

فكل منا مسخر لخدمة الآخرين فيما فضل فيه، وفيما نبغ فيه.

وصدق الشاعر حين قال:
الناس للناس مـن بدوٍ ومن حضــرٍ بعض لبعضٍ وإن لم يشعروا خدم

إذن: في التفاضل يجب أن ننظر إلى زوايا الإنسان المختلفة؛ لأن الجميع أمام الله سواء، ليس منا من هو ابن الله، وليس منا من بينه وبين الله نسب أو قرابة، ولا تجمعنا به سبحانه إلا صلة العبودية له عز وجل، فالجميع أمام عطائه سواء، لا يوجد أحد أولى من أحد.

فالعاقل حين ينظر في الحياة لا ينظر إلى تميزه عن غيره كموهبة، بل يأخذ في اعتباره مواهب الآخرين، وأنه محتاج إليها وبذلك يندك غروره، ويعرف مدى حاجته لغيره.
وكما أنه نابغ في مجال من المجالات، فغيره نابغ في مجال آخر؛ لأن النبوغ يأتي إذا صادف العمل الموهبة، فهؤلاء البسطاء الذين تنظر إليهم نظرة احتقار، وترى أنهم دونك يمكن أن يكونوا نابغين لو صادف عملهم الموهبة.
وقوله تعالى:

{وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلاً }
(سورة الإسراء)

(انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا )

فإن كان التفاضل بين الناس في الدنيا قائماً على الأسباب المخلوقة لله تعالى، فإن الأمر يختلف في الآخرة؛ لأنها لا تقوم بالأسباب، بل بالمسبب سبحانه، فالمفاضلة في الآخرة على حسبها.

ولو تأملت حالك في الدنيا، وقارنته بالآخرة لوجدت الآخرة اكبر درجات واكبر تفضيلاً، فعمرك في الدنيا موقوت، وسينتهي إلى الموت؛ لأن عمرك في الدنيا مدة بقائك فيها، فإن بقيت من بعدك فهي لغيرك، وكذلك ما فضلت به من نعيم الدنيا عرضة للزوال، حيث تناله الأغيار التي تطرأ على الإنسان.

فالغني قد يصير فيقراً، والصحيح سقيماً، كما أن نعيم الدنيا على قدر إمكانياتك وتفاعلك مع الأسباب، فالدنيا وما فيها من نعيم غير متيقنة وغير موثوق بها.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى