الوساطة السودانية بين فرقاء أفريقيا الوسطى .. معادلات صعبة…

السودان اليوم:

بشهية مفتوحة وعلى أنغام احتفالات فرقاء جنوب السودان باتفاق سلام طال انتظاره واكتملت نصوصه العصية في الخرطوم، كانت شخصيات نافذة في الحكومة تنسج بهدوء في الأيام الأخيرة من شهر أغسطس، وبمعية أصابع روسية متمرسة، ترتيبات لتقريب الشقة بين الفصائل المتنازعة في جمهورية أفريقيا الوسطى.
وبالفعل في (30) أغسطس أعلنت الحكومة الأفروأوسطية من بانغي، أن اثنتين من الجماعات المسلحة الرئيسية التقت في العاصمة الخرطوم، والتزمت بالعمل من أجل السلام والاستقرار السياسي.
وأصدرت ميليشيا “بالاكا” المسيحية بقيادة “ماكسيم موكوم”، والفصيل الآخر بقيادة “نور الدين آدم”، إعلان الخرطوم، أكدتا فيه الالتزام بالسلام وطالبتا حكومة أفريقيا الوسطى وروسيا الأخذ في الاعتبار عملية الاتحاد الأفريقي لتحقيق السلام في هذا البلد.
وبعد تسرب خبر هذه المحادثات إلى وسائل إعلام غربية، وعقب بيان حكومة بانغي، ذهبت وزارة الخارجية السودانية في الرابع من سبتمبر، إلى الإعلان عن استضافتها المحادثات خلال الفترة من (27-29) أغسطس، بمبادرة من روسيا وتحت رعاية الرئيس “عمر البشير”، توجت بالتوقيع على مذكرة تفاهم قضت بتكوين إطار مشترك للسلام باسم (تجمع أفريقيا الوسطى)، يهدف إلى نبذ العنف والتطرف ووقف العدائيات والسماح بحرية الحركة للمواطنين والتجارة مع دول الجوار، والالتزام التام بمبادرة الاتحاد الأفريقي من أجل السلام والمصالحة في أفريقيا الوسطى.
وأفريقيا الوسطى المستعمرة الفرنسية التي نالت استقلالها في 1960، تحادد السودان من الناحية الغربية، اشتدت حربها الأهلية منذ مارس 2013 عندما أطاح مُسلحو تحالف سيليكا، الذين أغلب عناصرهم من المسلمين، بالرئيس المسيحي “فرانسوا بوزيزى” الذي تناصره ميليشيات “مناهضو بالاكا” المسيحية والمدعومة فرنسياً.
ويقدر تعداد مقاتلي سيليكا بنحو (25) ألف مقاتل وفق بعض التقديرات، ويتزعم الائتلاف “ميشال جوتوديا” (الذي كان يحمل اسم “محمد ضحية”، قبل أن يغير اسمه)، وهو أول رئيس مسلم، تولى الحكم بعد سيطرة قواته على العاصمة والقصر الرئاسي، وفرار “بوزيزي” في مارس 2013.
وفي ديسمبر 2013، أقدمت القوات الفرنسية بالتعاون مع نظيرتها الأفريقية الموجودة هناك، على نزع أسلحة أكثر من سبعة آلاف من مقاتلي سيليكا، ووضعهم في ثكنات مختلفة بالعاصمة، وهو إجراء أغضب المسلمين الذين يمثلون نحو (20%) من السكان، باعتبار أن هذه القوات كانت تمثل لهم نوعاً من الحماية في مواجهة الميليشيات المسيحية، ولذلك نظم المسلمون احتجاجات في بعض شوارع العاصمة، منددين بالانحياز الفرنسي لصالح المسيحيين، كما ظهرت احتجاجات أخرى ضد القوات الفرنسية عقب مقتل ثلاثة من مقاتلي سيليكا في اشتباكات مع الفرنسيين، بعد هذه التطورات اضطرت فرنسا لسحب قواتها من أفريقيا الوسطى في العام 2016، قائلة إن مهامها الرامية لإحلال الأمن أنجزت.
وهكذا تحولت أفريقيا الوسطى إلى ساحة تتنافس فيها الدول الكبرى، فكانت روسيا آخر القوى التي وجدت ساحة نفوذ حين سمحت لها الأمم المتحدة في نهاية عام 2017 بتسليم أسلحة وإرسال مدربين عسكريين إلى بانغي، رغم وجود حظر سارٍ على بيع الأسلحة لحكومتها، ولاحقاً وصلت الأسلحة الروسية ووقع البلدان اتفاقات ثنائية، وتوسع مجال تحرك الروس في أفريقيا الوسطى، فالجنود الروس تولوا الأمن الرئاسي، في حين تحدثت مجموعات مختلفة عن وساطات داخلية يقوم بها الروس.
وفي أبريل الماضي، وصلت عشرون شاحنة روسية إلى شمالي البلاد عبر السودان، ووفق الجبهة الشعبية لنهضة أفريقيا الوسطى، فإن الروس سيشاركون في تأهيل مستشفيات هناك، في حين تحدث مراقبون عن أهداف أخرى، كما أن هناك العديد من مجموعات التعدين الروسية العاملة في هذا البلد الغني بالموارد.
ومع كل القلق الذي بدا من فرنسا حيال الوجود الروسي في مستعمرتها، فإن ظهورها كوسيط للتسوية مع السودان أثار حفيظة باريس بشكل ملحوظ، وسارعت دون تردد إلى إظهار رفضها أي دور لموسكو، ونقلت القلق إلى مجلس الأمن وهو ما انعكس سلباً على الدور السوداني، فقبل أيام قليلة من الموعد المحدد لهذه الجولة في منتصف نوفمبر، كانت كل المؤشرات تقول إن الخرطوم في طريقها لتحقيق مصالحة جديدة تضاف إلى سجلها الذي أنجزته مع جنوب السودان، وأوفد “البشير” وزير خارجيته “الدرديري محمد أحمد” إلى رؤساء كل من تشاد وأفريقيا الوسطى، وبعدها إلى الكونغو والغابون، لحشد التأييد للمحادثات المرتقبة، كما طلب الوزير من سفيرة فرنسا لدى الخرطوم، صراحة دعم هذه الجهود لإنجاح الوساطة وتسوية الأوضاع في أفريقيا الوسطى، لكن بصورة مفاجئة أعلنت وزارة الخارجية في الخرطوم، عن تأجيل المحادثات بطلب من الاتحاد الأفريقي لتزامنها مع قمة الإصلاح الطارئة التي قالت إنها ستعقد في ذات التاريخ المحدد لبدء جولة التفاوض بين فرقاء هذا البلد.
وبعد ساعات من الإعلان عن التأجيل، اتهم الرئيس “عمر البشير” جهات – لم يسمها – بعرقلة وساطة بلاده الرامية للتسوية في أفريقيا الوسطى.
وبالتزامن مع تبرم “البشير” كان مجلس الأمن يعلن تمديداً لبعثة الأمم المتحدة في أفريقيا الوسطى لمدة شهر بعد الفشل في تبني قرار صاغته فرنسا ينص على أن المبادرة التي تقودها أفريقيا هي “الوحيدة إطار” من أجل الحل، وشدد نائب السفير الروسي في هذه الجلسة الساخنة “ديمتري بوليانسكي” على ضرورة الاتفاق على أنه يمكن للجميع المساهمة في السلام، وأنه لا ينبغي أن يكون مجالاً للمنافسة، ودعا فرنسا إلى التخلي عن “المصالح الوطنية الضيقة”.
وأمام هذا الوضع وجدت الخرطوم نفسها أمام صراع دولي قوي ومعادلات وموازنات غاية في الصعوبة، فعليها من جهة مواصلة ما بدأته من وساطة مع الروس، ومن جهة أخرى عليها العمل تحت الاتحاد الأفريقي بعيداً عن الأصابع الروسية، تحاشياً للمتاريس الفرنسية، فطفقت ممثلة في وزير الخارجية “الدرديري محمد أحمد”، تؤكد أن وساطتها في البلد الجار، تنطلق من رؤية الاتحاد الأفريقي الذي تدخل منذ العام 2017 دون أن يتمكن من إنجاز تقدم، وشدد الوزير في تصريحات قبيل ساعات من مغادرته إلى فرنسا الأسبوع الماضي، على أن باريس أبلغتهم بأنها لا تعارض الوساطة السودانية طالما أنها مندرجة في إطار مبادرة الاتحاد الأفريقي.
لكن الوزير “الدرديري” لم يتحدث عن وجهة نظر فرنسا تجاه الدور القوي لروسيا وتدخلها في هذه الوساطة مع السودان، فهي فعلاً أي فرنسا، لا تمانع دور السودان لكنها في ذات الوقت لا تقبل الوجود الروسي في هذه المبادرة.
وعندما التقى نظيره الفرنسي (الثلاثاء) الماضي، قال له نصاً، إن مساعي السودان لتسوية الأوضاع في أفريقيا الوسطى، تنطلق من حرصه على أمنه الداخلي وليس لمصلحة “أي طرف آخر”.
ويقول الكاتب الصحفي والمحلل المهتم بالشؤون الأفريقية “عبد الله رزق” لـ(المجهر)، إن الاتحاد الأوربي الذي اصطف خلف الموقف الفرنسي، دعا السودان ضمناً، للتخلي عن المبادرة الروسية، بالالتفاف حول المبادرة الأفريقية حين قال في نهاية البيان الذي أصدره يوم (19) الجاري، إن مجلس الاتحاد الأوربي، يدعو السودان للعمل وثيقاً مع الاتحاد الأفريقي والمجتمع الدولي من أجل تحقيق المصالحة في أفريقيا الوسطى، ويرى “رزق” أن ثمة ممانعة “قارية ” وليست فرنسية وحسب، يشف عنها البيان، لأي دور للسودان في تسويق المبادرة الروسية.
ويشير إلى أن باريس لم تعلن أصلاً رفضها لدور سوداني في هذه التسوية، لكنها تعارض بوضوح الوجود الروسي في أفريقيا الوسطى وتقاوم أي مسعى لبناء نفوذ روسي من وراء المبادرات الشبيهة.

ويرى “عبد الله رزق” أن تأجيل اجتماع الخرطوم الذي كان مقرراً في (١٥) نوفمبر الجاري، بين الفصائل المسيحية والمسلمة، بجانب الحكومة في أفريقيا الوسطى، يشكل بحد ذاته، دلالة على نجاح الفيتو الفرنسي في تعطيل المبادرة الروسية -السودانية، لافتاً إلى أن الرئيس “البشير” تحدث عن ذلك دون أن يذكر فرنسا بالاسم.
ويضيف ” يبدو أن فرنسا، التي تعارض الوجود الروسي في مستعمرتها السابقة، وتعارض بالتالي أي دور روسي، وتتوسل لذلك بدعم المبادرة الأفريقية المدعومة من الأمم المتحدة، عملت على حشد تأييد أفريقي لموقفها، وبعد لقاء مع “إدريس ديبي” حصلت فيه على موقف داعم.
ولخصت “فلورنس بارلي” وزيرة الدفاع الفرنسية خلال مقابلة مع مجلة جون افريك في أكتوبر الماضي، عقب اجتماع الخرطوم الأول في أغسطس، أن المبادرة الروسية لن تحدث أثراً إيجابياً على الوضع الأمني في أفريقيا الوسطى، وأنه يتعين إعطاء كامل الفرصة لمبادرة الاتحاد الأفريقي.
ويشير “رزق” إلى أن الوزيرة لخصت عقب لقائها الرئيس التشادي، الحاجة لطرح الموضوع على مستوى الرؤساء الأفارقة.
ويردف قائلاً “يبدو أن فرنسا تحركت في هذا الاتجاه وضمنت على الأقل، عدم حصول المبادرة الروسية على إجماع أفريقي، إن لم تكن عزلة قارية”.
وينوه إلى ثمة تساؤل على ضوء إرجاء اجتماع الخرطوم الثاني، إلى أجل غير مسمى، وهو ما يعني طي صفحة المبادرة الروسية – السودانية، عما إذا كان موقفاً جديداً طرأ على حكومة أفريقيا الوسطى، فيما يتعلق بتأييدها المبادرة الروسية – السودانية، بعد زيارة وزير الخارجية الفرنسي “جان ايف لودريان” مطلع نوفمبر الجاري، أي قبل أسبوعين من اللقاء الذي كان مقرراً بالخرطوم، واجتماعه في بانغي، مع رئيس أفريقيا الوسطى “فوستان اشانج تواديرا”، وتقديمه عوناً قيمته (٢٤) مليون دولار، مع وعود بتقديم سلاح لجيش أفريقيا الوسطى.
وفي منحى ذي صلة، يرى “عبد الله رزق” أن تسليم “ألفرد يكاتوم” الزعيم السابق لمليشيا أنتي بالاكا المسيحية، والشهير بـ(رامبو)، إلى المحكمة الجنائية الدولية وترحيله إلى لاهاي بعد شهر من القبض عليه بسبب إطلاقه النار داخل البرلمان خلال مشاجرة زميل برلماني، يجيء أيضاً في إطار التحول نحو الموقف الفرنسي، وأن المقصود من الخطوة على الأرجح الحد من غلواء وتصلب المليشيا المسيحية أنتي بالاكا من ناحية، وإيجاد نوع من التوازن بين القوى المتصارعة حيث يشتكي المسلمون من أن تجريد فرنسا للقوى الإسلامية سيليكا، من السلاح، قد جعل ظهرهم مكشوفاً للمليشيا المسيحية، لكن كما يقول “رزق”، فإن الخطوة لا يتوقع أن يكون لها تأثير سلبي على محادثات السلام في المدى البعيد.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى