المنحوس. بقلم علي بلدو

السودان اليوم:

تقترح مباحث ومساعي ما بعد الحداثة طرقاً جديدة للتعبير، بل تطرح فكرة التعددية الثقافية وقبول الآخر ثقافياً بدلاً عن سياسة المحق والسحق التي نمارسها أحياناً كثيرة تجاه هذه الثقافة أو تلك في بلادنا، مما أحدث بوناً شاسعاً بين الناس وضاعف من التنافر والتباعد بين مكونات المجتمع وجعلنا منقسمين ثقافياً كما انقسمنا وانسلخنا وانضممنا رياضياً وسياسياً ولم ننجح في هذه أو تلك.حتى انفصلنا بعد أن لم تكفنا مليون ميل مربع لنعيش فيها معاً وذهبنا أيدي سأ ونحن يسب بعضنا بعضاً ولم نترك وصفاً مسيئاً إلا وصفنا به هذا أو تلك ولا نزال.
أين نحن الآن من الهوية الكونية والتي تدغدغ عواطفنا منذ حين، فالحلم هنا يصبح حلم كل إنسان من حلفا إلى كوستي ومن كسلا إلى الجنينة، وهذا أمر جدير بالاهتمام ونفترضه حاضراً في ضمائرنا ونفرد له حيزاً مقدراً في مساحتنا الجمالية وحسب واقع الحال وما تسمح به السلطة وأهل السلطان وبطانتهم من المثقفين الذين عشعشوا في أركان الوزارات وعاسوا فيها كما يشاءون:
فقالت لقد أزرى بك الدهر بعدنا فقلت معاذ الله بل انت لا الدهر
ولقد مارسنا إرهابنا الثقافي على الكثيرين حتى تخلوا عن تراثهم خوفاً من الملاحقة والرمي بالأوصاف الخطيرة كالكفر والفجور والمعاصي وتخلوا عن ملابسهم وأزياءهم خوفاً من الخلاعة، والبعض فاخر بالبراءة منها خصوصاً بعد أن قبض الثمن مالاً وجاهاً وتعييناً عند أهل الصولجان من الأخوات والأخوان.و نرى وزير سياحتنا يقر بعدم دخوله المتحف القومي لرؤية أجدادنا وتاريخنا العظيم من ترهاقا وبعانخي والكنداكة بحجة أنها أصنام.. بينما يتمرغ في نعيم الوالي وأموال المسحوقين والبسطاء ورسوم أطفال الدرداقات وجبايات بائعات الشاي، فأي حرام أكثر من هذا لو كانوا يعلمون، وكأنهم لم يتعلموا أن من يأكلون أموال هؤلاء فإنما يأكلون في بطونهم الممتلئة وكروشهم المنتفخة ناراً وأن أوداجهم التي تمددت من أكل السحت سيحمى عليها ليذوقوا ما فعلوه بشعبنا المكلوم والصابر.
هذه الحالة الثقافية تحيلنا فوراً إلى حالات مشابهة من تنازلات وانبراشات قمنا بها مرغمين وراغبين في مجالات شتى ووفقنا أوضاعها فقهياً تارة بالضرورة وتارة بالسترة وتارة بالتقية وخلافها، وعلماء السلطان جاهزين هنا بفتاوى الدفع المقدم واليمين المغلظ والذي سوف يغمسهم سبعين خريفاً في مكان سحيق، حتى ضاعت الثوابت وتبدى زيف القناع وترهات الشعارات منذ زمن بعيد.
ماذا فعلنا لأجل الهوية الكونية والضرورة الداخلية والصيرورة النهائية والمعقدة وهل نحن حداثويون فعلاً أم صرنا دون أن نعلم أصناماً للرجعية وأوثاناً للتقليدية، دون شك أننا قد أصبحنا غير مبالين بما يجري من انتقال ثقافي وإبادة الأفكار ومصادرة الأحلام، ولم ننتبه لجرحنا الثقافي النازف والملئ بالقيح والصديد ونحن منشغلون بأوهام الروائع ومهرجانات العلاقات العامة وجماعة شيلني وأشيلك والذين نصبوا أنفسهم جوراً و زوراً وبهتاناً أمراء للثقافة واطلق بعضهم على بعض الألقاب وملأوا الصحف بالصور والتقارير الضاربة في أصدق تعبير عن كهنوت الثقافة الذي أتانا به هؤلاء الدهاقنة الجدد.. ألا ساء ما يفعلون.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى