العقل في ميزان الشرع

العقل في ميزان الشرع:
نحن – معاشرَ المسلمين – نعبُد الله ونتَّبع شريعتَه؛ لأنَّنا عبيدٌ لله، وشرَف العبوديَّة لا يُدرِكه مَن هبَّ ودبَّ.

ووجَدْنا شرعَ الله الإسلام يتوافَق مع المعقول حذو القُذَّة بالقُذَّة، فلا تناقُض بينهما.

ولو فرضنا جدلاً أنَّ الشرع يتناقَض مع العقولِ، فسنعزو التناقُض للعقول لا للشريعةِ الطاهِرة – ربَّانيَّة المصدر.

بل إنَّ العقولَ قد تُخطئ الحقَّ في حالاتٍ كثيرة، فنَهتدي بالمنقولِ فيما لا مجالَ فيه للعقول، كأمورِ الغيب والتوحيد والشَّريعة، ممَّا لا تُدركه العقولُ إلا على سبيلِ التصور.

• وقال العلاَّمةُ ابنُ القيِّم: “كيف يَنقدِح في ذِهن المؤمِن أنَّ في نصوصِ الوحي المنزلةِ مِن عند الله – عزَّ وجلَّ – ما يُخالِف العقولَ السليمة؟! بل كيف ينفكُّ العقل الصَّريح عن ملازمةِ النصِّ الصحيح؟! بل هما أخوانِ لا يفترقان، وَصَلَ الله بينهما في كتابِه، وإذا تَعارَض النقلُ وهذه العقول أخَذْنا بالنقل الصحيح، ورُمي بهذه العقولِ تحتَ الأقدام، وحُطَّت حيث حطَّها الله وأصحابها، فكيف يُظنَّ أنَّ شريعة الله الكاملة، ناقِصة تحتاج إلى سياسةٍ خارجة عنها تُكمِّلها، أو إلى قياس أو معقول خارجٍ عنها، ومَن ظنَّ ذلك فهو كمَن ظنَّ أنَّ بالناس حاجَةً إلى رسولٍ آخَر بعدَ محمَّد – صلَّى الله عليه وسلَّم”[2].

• قال العلاَّمة ابنُ خلدون: “العقلُ ميزانٌ صحيح، فأحكامُه يقينيَّة لا كذِب فيها، غير أنَّك لا تَطمع أن تزِنَ به التوحيدَ والآخِرة وحقائق النبوَّة، وحقائق الصِّفات الإلهيَّة، وكل ما وراء طورِه، فإنَّ ذلك طمع في محال”[3].

• وقال الإمامُ الشاطبيُّ: “العقلُ لا يُجعَل حاكمًا بإطلاق، وقد ثبَت عليه حاكِمٌ بإطلاق وهو الشَّرْع، بل الواجِب أنْ يُقدِّم ما حقَّه التقديم – وهو الشَّرع – ويؤخِّر ما حقُّه التأخير – وهو نظَر العقل؛ لأنَّه لا يصحُّ تقديم الناقِص حاكمًا على الكامِل؛ لأنَّه خلافُ المعقول والمنقول”[4].

• قال أبو القاسمِ الأصفهانيُّ: “العقل نوعانِ: عقلٌ أُعينَ بالتوفيق، وعقلٌ كِيدَ بالخذلان، فالذي أُعين بالتوفيق يدْعو صاحبَه إلى موافقةِ الأمر المفترَض بالطاعة، والانقياد لحُكمه، والتسليم به، والعقل الذي كيد يطلُب بِتَعَمُّقِه الوصولَ إلى علم ما استأثَر الله بعِلمه وحجَب أسرارَ الخلْق عن فَهمِه، حِكمةً منه بالغة.

ويَنبغي أن يُعلمَ أنَّ تقديسَ العقلِ وإنزاله في غيرِ منزلتِه الصحيحة أمرٌ مرفوض شرعًا.

قال شيخُ الإسلام ابن تيمية: “والدَّاعون إلى تمجيدِ العقل إنَّما هُم في الحقيقةِ يَدْعُون إلى تمجيدِ صَنم سموه: عقلاً، وما كان العقل وحْدَه كافيًا في الهدايةِ والإرشاد، وإلا لَمَا أرْسل الله الرُّسل[5].

• وقال أبو المظفَّر السمعانيُّ: “واعلم: أنَّ فصل ما بيْننا وبين المبتدِعة هو مسألةُ العقل، فإنَّهم أسَّسوا دِينهم على المعقول، وجعلوا الاتباع والمأثور تبعًا للمعقول، وأمَّا أهل السُّنة، فقالوا: الأصل في الدِّين الاتباع، والمعقولُ تَبَعٌ، ولو كان أساس الدِّين على المعقول لاستغنَى الخلْق عن الوحي، وعن الأنبياء، ولبَطل معنى الأمْر والنهي، ولقال مَن شاء ما شاء، ولو كان الدِّينُ بُني على المعقولِ لجاز للمؤمنين ألاَّ يَقبلوا شيئًا حتى يعقلوا”[6].

• قال شيخُ الإسلامِ ابنُ تيمية: “ما عُلم بصريحِ العقلِ لا يُتصوَّر أن يعارضَه الشرعُ البتةَ، بل المنقول الصحيح لا يُعارضه معقولٌ صريح قط، فالعقلاءُ متَّفقون على أنَّ العقل الصريح لا يُخالِف نقلاً صحيحًا”[7].

ليس هَدفي مِن هذا المقال الاستدلالَ على أنَّ المسلمين المستمسكين بالشريعة الطاهِرة على حقٍّ، بل هدَفي بيانُ تهافتِ أطروحات هؤلاء المقلِّدين الذين يدَّعون التجرُّد والاحتكام للعقل والمنهجيَّة العِلميَّة. وتُلفيهم لا يَقدِرون على التخلُّصِ مِن أفكار غيرِهم وتوجهاتهم.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى