اصعب لحظات الحب

الشعور النابع من إسعاد الآخرين، لا يكافئ أيّ نشوة جسدية أو روحية فانية، ووحده الخير النابع من القلب هو القادر على بلوغ أيّ مكان وأيّ قلب سأذكرها، وأذكر هذا اليوم، هذا اليوم لنا، وأنا وهو لها وحدها، وهي وهو لي وحدي، والحب لنا.

كانت تلك الكلمات التي وجدت مكانها بين الحروف المتناثرة ليلة السادس والعشرين من تشرين، في الثانية وخمسة عشر سيجارة، مطعم على الركن، أجلس وحيداً أتأمل لون زجاج النافذة، إذ بها هي تمرّ للمرة الثانية على التوالي من أمام النافذة ذاتها، تظاهرت بأنّي تفاجأت حين رأيتها، حاولت أن أخدع عقلي بأنّي لم أتعمد الجلوس على الكرسي ذاته أمام النافذة ذاتها لمدة أسبوعين بشكل يومي، ترقبًا لمجيئها، أذكر ذلك المشهد جيدًا، المطر يتراقص برويّة، معطفها الرمادي القصير، وشاح بلون النبيذ الشهي يحتضن عنقها العاجي كطفل يلتمس الأمان بصدر أمّه، مظلةٍ تلوح مع اشتداد الريح، وأنا جالس بكل خيلاء أقنع نفسي أنّنا في يوم من الأيام سنسير معًا تحت المطر. تشرين، ذلك المطر الذي ينهال على ذاكرتي بمختلف أنواع الذكريات. يجلد قلبًا اعتاد أن يهمس كل ليلة اسمها وينام.

مضى عامان منذ ليلة تشرينية عاصفة، كان الهدوء يدوّي في العدم، شمعةٌ مضيئةٌ على طاولة المطبخ، أغنّي على ألحان “ألف ليلة وليلة” وأنا أعدّ لنفسي طعام العشاء، الجميع نيام يحلمون، إلّا طيّار حربي حظي بمساء سيء، فاختار الخروج بجولة فوق المدينة، يبتعد صوت الطائرة شيئًا فشيئًا، لم أبالِ به، فنحن اعتدنا سقوط المطر الناري على مدار الفصول، أنتهي من إعداد الطعام ناسيًا ما قد سمعت، أشعل المذياع، صوت الرعد يدوي فجأةً، يلهث المذيع؛ ليغطي النبأ ويسبق الإذاعات الأخرى. ينتابني فضول كالعادة لمعرفة الأضرار التي لحق جراء الحدث. يبدو أنّ ذلك الطيار كان يغيظني تلك الليلة، أسمع نبأً أوليًا عن استهداف بناية بجانب المقهى الذي اعتدت الجلوس فيه، يجتاحني شعور بالاستياء، أين سأشرب قهوتي إذًا مساء الغد؟! يستمر المذياع ببث الأناشيد الوطنية حتّى يتحصّل على المعلومات المؤكد حول الاستهداف. أنتهي من تناول الطعام، أمدّ يدي لأطفئ المذياع كي أخلد للنوم، يأبى الفضول الذي اعتراني حين سمعت التتر الإذاعي مجددًا يحمل خبرًا عاجلًا، أنتظر قليلًا، صوت المذيع من جديد، عدد من الإصابات، عدد من الشهداء، تتلون حبات المطر الساقطة على الأرض بالدم، ينتظر المراسل ليتأكد مرة أخرى من أسماء الشهداء، أنتظر أنا أيضًا. خمس ثوانٍ ويعود المتحدث، يذكر العنوان بالتفصيل، أتذكر عنوانها، يذكر اسم العائلة، أتذكر عائلتها، يذكر أسماء الشهداء، معلنًا على حرب الذكريات، خمس حروف صرعتني جاثياً على ركبتيّ. يهطل المطر بغزارة، لكن هذه المرة من عينيّ.

منذ ذلك الحين، حطّمت تلك النافذة، أُغلق المقهى، أغرق المطر كافة أحلامي، وعاد الطيار بعد أن حسّن مزاجه قليلًا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى