أبعد من اغتيال رجل .. حياة الحويك

السودان اليوم

لن يجادل أحد بأن اغتيال رجل، أي رجل، هو عملية مُدانة وتتصاعد إدانتها كلما تصاعدت وحشيّتها. رجل أصرَّت جميع وسائل الإعلام على كونه صحافياً وحسب، في حين يعرف الجميع إنه رجل استخبارات من الدرجة الأولى ورجل صفقات من الدرجة الأولى ( قبل أكثر من سنة، ومن على شاشاة الميادين تباهت صحافية؟؟؟ لبنانية بأن جمال الخاشقجي أرسلها إلى دونالد ترامب قبل 27 سنة لتسويق صفقة مناقصة فنادق دبي ) ورجل إسلام سياسي إرهابي قاتل في أفغانستان وقاد الحرب على اليمن وتوعّد بأن يصطاف في الساحل السوري بعد طرد العلويين منه. ورجل مُقرَّب من الإخوان المسلمين أنشأ مؤخراَ، في ولاية أميركية، منظمة للديمقراطية هدفها إعادة إحياء الربيع العربي ( أين وضدّ مَن؟). لكن هذا التموضع الذي جعله يوماً منسجماً مع قتلته ، بات يجعله أقرب إلى أعدائهم. فهل يمكن أن تتلخّص هنا مُبرّرات التخلّص منه؟

كل مَن يفهم لعبة السياسة والإعلام يفهم ببساطة أن فيلم الرّعب الهوليوودي الطويل الذي فُرِض علينا طيلة ثلاثة أسابيع لم يكن إلا غطاء نارياً هائلاً للعمليات التي كانت تتم تحته. عمليات التفاوض والصفقات. وحتى التسريبات المُتأرجِحة، التي جعلت البعض يتخيّل إنه اقترب من الحقيقة، لم تكن إلا وسائل ضغط في العمليات هذه. تحت هذا الضجيج الإعلامي غير المسبوق لم يتوقّف الناس ليسألوا أية رهانات كبرى تقع وراءه لتجعله بهذا الحجم؟

الرهانات تبدأ من الخارجي لتصل إلى الاقليمي فالمحلي. ففي الولايات المتحدة، عرّابة الخصمين الخليجيين والسعوديين ثمة صراع كبير بدأ منذ المعركة الرئاسية لدونالد ترامب. صراع تجاوز هذه المرة البُعد الديمقراطي الجمهوري ، وكلنا يذكر أن الجمهوريين انقسموا حول المُرشّح وحول مُنافسته ، وكذلك انقسم الديمقراطيون وإن بدرجة أقل . ومثلهم الصحافة والأجهزة الأمنية. حقيقة ذلك أن ترامب لم يكن جمهورياً تقليدياً وإنما رجل حمل مشروعاً جديداً للولايات المتحدة والعالم ، عنوانه الخروج من العولَمة والعودة إلى الحمائية القومية الرأسمالية، وتحت العنوان خيارات فظّة جداً تتعلّق بكل العلاقات الخارجية مع الحلفاء والخصوم على حد سواء. هذا الخيار انتصر في الانتخابات بفضل النظام الانتخابي، ولكنه لم ينتصر على الأرض ، فهناك مَن يُعاديه لأنه يعتقد أنه يقود البلاد إلى الهاوية ، وهناك مَن يُعاديه لأن مصالحه تتناقض مع هذه السياسة وعلى رأس هؤلاء الشركات التي يعني خروجها من إطار العولمة اضمحلالها وربما موتها. وعليه ستكون الانتخابات القريبة مفصلاً هاماً في هذا الصراع.

الانعكاسات الخارجية كثيرة . ولكن ما يعني منطقتنا منها هو موقف مُعيَّن من دول الخليج وموقف مُعيَّن من إيران وموقف مُعيَّن من الصراع العربي الإسرائيلي وموقف مُعيَّن من حروب ما سُمّي الربيع العربي ، وبالتالي من حركات الإسلام السياسي وتحديداً الإخوان المسلمين الذين تتبنّاهم رسمياً تركيا وقطر ، ويستمر نفوذهم غير الرسمي في مواقع أخرى.

لم يكن الصراع القطري السعودي خارج هذا الإطار ، كما لم يكن خارجه الاصطفاف المصري الإماراتي. إنه رهان الصراع على السلطة في العالم العربي وتحديداً في مصر ودول الخليج العربي التي لا نجد فيها قوّة حقيقية معارضة للأنظمة إلا الإخوان. فإذا كان الصراع في دول المشرق الأخرى بين قوى إسلامية وقوى قومية أو يسارية أو علمانية ، فإن الصراع داخل الإسلاميين هو بين خط إخواني وخط وهّابي ، وبما أن الثاني لا يتمكّن من استقطابٍ موازٍ برغم الإمكانات المالية ، فإن خطاً ليبرالياً حليفاً تمثله الإمارات يتكفّل باستكمال الصورة. هذا الخط الثاني كان يتطلّب وجهاً أكثر قرباً في المملكة الوهّابية. إصلاحي في الشكل وقمعي في الجوهر ومُستسلم لإرادة راعيه الترامبي من دون أيّ تحفّظ . وكما في كل السياسات المتعلّقة بالعالم العربي فإن المطلوب شباب لا علاقة لهم بالماضي بكل ما في الماضي من قضايا قومية ووطنية وعلى رأسها فلسطين . بل ويتوقون إلى الخلاص من كل هذا لصالح نموذج أميركي بهروا به حد العمى. وفي هذا ما يفسّر جعل جاريد كوشنر الناصِح المباشر لمحمّد إبن سلمان. وفي كل ما ذكر ما يفسّر أيضاً تغاضي الولايات المتحدة والغرب عن الإطاحة العنيفة والمذلّة بسائر الأمراء الذين كانوا يشكّلون مراكز قوى.

هكذا تم الدفع باتجاه حروب العرب وخاصة الحرب على سوريا ، وهكذا تم الدفع باتجاه حرب اليمن، وهكذا تم الدفع باتجاه صفقة القرن. وباتجاه تعزيز العداء لإيران. لكن هذه كلها شارفت على النهاية الفاشلة ، فسوريا تخرج من معركتها منتصرة وإن جريحة حتى العظم. لكن السكين التي تبقى عالقة في الجرح أن تركيا تخرج أيضاً بدور في نهاية حرب هي مَن أوقد أبشع نيرانها. وسلطانها الجديد يعيش حلم سلاطينها القدامى باستعمار العالم العربي باسم الدين . في حين استبعدت السعودية عن اجتماعات سوتشي وأنقرة وموسكو . في هذا الوقت تبدو صفقة القرن مُستعصية في فلسطين حتى وإن كانت بعض بنودها قد مرت. أما الحرب على اليمن فقد أنهت التدمير العسكري لصالح شركات الأسلحة وجاء دور إعادة الإعمار لصالح الشركات نفسها بفروعها المدنية. أو المستثمرين أنفسهم بشركات أخرى. أما العداء الترامبي ومن ثم الخليجي لإيران فيبدو أنه يواجه بنجاحات لطهران في محيطها الجيوسياسي وفي داخلها، في ما يعزّز رؤية المعارضة الأميركية للعلاقة معها.

كل هذا وغيره، يبدو أن رجل الاستخبارات والصحافة والعلاقة المميّزة مع الغرب الأنكلوساكسوني قد قرأه ، فأنشأ منظمته الخاصة للديمقراطية وأطلقها من أميركا، وظنّ أنه يستند إلى تركيا ساحة. وربما تكون هناك جهات في الأجهزة أرادت توريط ترامب وإبن سلمان معاً لكن التلقّف التركي للبازار أوصل ترامب وأردوغان إلى بيع الصفقة لمحمّد إبن سلمان وقبض كل منهما ما يريده من ثمن، منه ما أعلن ومنه ما لم يعلن بعد. وكان لافتاً تضمّن الصفقة لأحمد العسيري (أيقونة) الحرب على اليمن . كما تضمّنت خروج ترامب بشبه براءة لرجله أمام الانتخابات البرلمانية التي ستجري بعد أسبوعين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى