زياد بن أبيه في خلافة معاوية .. بقلم: عبدالله الشقليني

السودان اليوم

alshiglini@gmail.com

عن رواية التاريخ بمنظار الدكتور طه حسين :

يحق لنا أن نرفع القبعات – إن كانت لنا – في ذكرى عميد الأدب العربي ” الدكتور طه حسين ” ( 1888 -1973م)، في كل حين، وفي كل سانحة يذكر المرء إسهام هذا العملاق في نقل اللغة العربية من لغة مجتمعات تحبو لتظل موجودة، في ظل عالم يسرع الخُطى ليتقدم، إلى لغة علمية تنافس حضارات اللغات. درس بمصر وفرنسا ونال درجة الكتوراه عن أبي العلاء ، ودكتوراه أخرى عن ابن رشد. درس اللغة الفرنسية والحبشية والسريانية والعبرية علاوة على اتقانه العربية. وقال عنه الدكتور” إبراهيم مدكور” اعتدّ بتجربة الرأي وتحكيم العقل عند الدكتور طه حسين، الذي استنكر التسليم المطلق، ودعا إلى البحث والتحري، بل إلى الشّك والمعارضة وأدخل المنهج النقدي في ميادين لم يكن مسلَّمًا من قبل أن يُطبق فيها. وأدخل في الكتابة والتعبير لونًا عذبًا من الأداء الفني حاكاه فيه كثير من الكُتَّاب، وأضحى عميدَ الأدب العربي بغير منازع في العالم العربي جميعه. وأعظم أسفاره جدلاً ( في الشعر الجاهلي) و ( مستقبل الثقافة في مصر ) و أكثر ثراء: لمحات من سيرته الذاتية ( الأيام ). لم يقدم لكاتب طوال تاريخه إلا كتاب ( مقدمة لفهم أشعار العرب) للبروفيسور عبدالله الطيب.

نعرض لمادة كتبها ووردت في بطن كتابه ( الفتنة الكبرى الثاني – علي وبنوه ). عرض فيها لسيرة ” زياد بن أبيه ” الوالي خلال فترة خلافة معاوية. واستخدم أقوال المؤرخين، مع التحليل لحقائق الأشخاص التاريخية وبواطن أفعالهم وردود الأفعال.

(2)

كتب ” الدكتور طه حسين “وقفة تأمل لسيرة ” زياد بن أبيه “واستقصائه إلحاق زياد ببنوة أبا سفيان بن حرب الأموي. عند هذا الاستلحاق الذي فرضه سلطان معاوية على المسلمين فرضاً. وأول ما تلاحظه من رواية المؤرخون والمحدثون لزياد، شيئاً من النقص وكثيراً من الغموض ، فقد ولد زياد عبداً للحارث بن كلدة، الذي كان يملك أمه سمية أو كان أبوه عبداً لصفية زوج الحارث. ونحن لا نرى زياداً إلا حراً في التاريخ الذي حُفظ لنا. فمتى أعتق ؟ ومنْ أعتقه ؟ وأين كان هذا العتق؟. وهو نفسه قد أنبأ عمر، حين أعطاه ألفاً، ثم سأله عنها من قابل، أفاد بأنه اشترى بها عُبيداً أباه فأعتقه. فهل صار زياد إليها قبل أبيه ؟. كل هذه الأمور لم يقف عندها المؤرخون والمحدثون – كما قال طه حسين – وهي مع ذلك أيسر سيرة زياد من الغموض. والمشكلة العسيرة حقاً في هذه السيرة هي مشكلة الاستلحاق، فقد نحب أن نعلم على أي أصلٍ من أصول الدّين أو الدنيا قام هذا الاستلحاق. فأما الدّين فنحن نعلم أن للتبني شروطاً قررها الفقهاء، وأولها: أن يكون الذي وقع عليه التبني من السن بحيث يمكن أن يولد لمنْ وقع منه هذا التبني، أي يكون الفرق بينهما في السن ملائماً لما يكون بين الأباء والأبناء من اختلاف الأسنان، وليس من شك في أن زياداً كان أصغر من أبي سفيان.وكان يمكن أن يكون له ابناً. الشرط الثاني: ألا يكون لمن وقع عليه التبني أب معروف، فليس ينبغي أن يُدعى رجل لغير أبيه،، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ” من ادعى لغير أبيه متعمداً حرمت عليه الجنة”. وكان لزياد أب معروف، هو عبيد الرومي ذاك.اعترف بذلك زياد نفسه حين خطب في مجلس الاستلحاق نفسه، فقال: أيها الناس قد سمعتم قول أمير المؤمنين وقول الشهود. ولست أعلم حق ذلك من باطله. وهم أعلم بذلك مني. وقد كان عُبيد أباً مبروراً وولياً مشكوراً.

وقد رأيت من حديث ابي بكرة أخي زياد لأمه أن زياداً انتفى من عُبيد حين انتسب إلى أبي سفيان. ورأيت كذلك في حديث أبي بكرة أنه أقسم ما عرف أبوسفيان سُميّة قط. فزياد إذاً قد انتفى من أبيه المعروف حين ادعى لأبي سفيان. ومعاوية قد أراده على ذلك. وليس شيء من هذا لهما بحال من الأحوال.

وهناك شرط ثالث لصحة التبني، وهو أن يقبله من يقع عليه التبني .وقد سعى زياد في ذلك حتى أغرى معاوية به ورغّبه فيه. ولكنه حين أريد إعلانه إلى الناس أعلنه على استحياء وتردد، كما رايت في كلمته التي رويناها آنفاً. والإقرار ببنوة زياد لأبي سفيان لم يصدر بعد بصفة قاطعة عن أبي سفيان نفسه، إنما زعم الزاعمون أن أبا سفيان لمّح به ولم يجرء على إعلانه مخافة الخليفة عمر. ولكن أبا سفيان عاش صدراً من خلافة عثمان. وكان عثمان أليّن جانباً من عمر، وكان يظهر لبني أمية من لين الجانب أكثر مما يظهر لعامة قريش وعامة المسلمين. ولو قد كان أبوسفيان مؤمناً حقاً بأن زياداً ابنه لأقرّ بذلك أيام عثمان، إلا أن يكون قد عرف أن هذا الإقرار لا يباح له، وأن عثمان لا يمكن أن يجيزه، لأن لزياد أباً معروفاً، هو عبيد، ذلك الرومي.

*

لقد انتظر معاوية باستلحاق زياد أن يموت أبوه، ثم يستلحقه، حين كان قريب المكان من عثمان عظيم الشأن في نفسه، بل لم يستلحقه في أيام علي حين كان يعمل في البصرة لعبدالله بن عباس، أو حين قام في البصرة مقام ابن عباس، بل لم يستلحقه أيام الحسن، ولم يفكر في استلحاقه إلا بعد أن خلص له السلطان من جهة بيعة الحسن، وحين امتنع عليه زياد في فارس من جهة أخرى. وعسى أن يكون الاستلحاق شرطاً من شروط الصلح بينه وبين زياد. فهو قرار سياسي ليس المرجع فيه إلى الدين ولا إلى أصل من أصوله، إنما المرجع فيه إلى الدنيا وتحقيق مصلحة سياسية واضحة كل الوضوح. فقد كان زياد أعلم الناس بأهل العراق، وأقدر الناس على سياستهم وحملهم على الطاعة عن رضى أو عن كره. ولم يكن ذكاؤه ودهاؤه يخفيان على معاوية، فقد اصتنعه معاوية إذا ليكفيه شرق الدولة، وليستطيع هو أن يفرغ لغربها. ولم يكن بدّ لصحة هذا القرار من أن يقبله إخوة معاوية، وسائر من ورثة أبا سفيان. و هؤلاء لم يكونوا يستطيعون إلا أن يذعنوا طائعين أو كارهين. وهذا الاستلحاق لمصلحة من مصالح الدنيا قد كان معروفاً في الجاهلية، وقد حرّمه القرآن بالآيتين الكريمتين من سورة الأحزاب. كان مثل هذا النحو من الاستلحاق معروفاً عند الرومان أيضاً. ويزيد الأمر تعقيداً أن معاوية أراد أن يثبت أن زياداً هو ابن أبي سفيان لصلبه فأشهد الشهود على أبيه بأنه عرف سُميّة في موطن من مواطن الإثم. وزاد بعض الشهود فقال: إنه راود سُميّة عن أن تلم بأبي سفيان . فقالت له: إذا جاء عُبيد الرومي من غنمه ووضع رأسه فنام أتيت. فورّط معاوية نفسه وورّط زياداً معه في نكر عظيم، وجرأ يونس بن عبيد على أن يقول له: قضى رسول الله أن الولد للفراش وللعاهر الحجر، وقد جعلت الولد للعاهر وللفراش الحجر.

ولم يكد زياد يلي البصرة حتى سار في الناس سيرة تناقض كل المناقضة سيرته فيهم حين كان عاملاً لعلي، لقد اعتمد سياسة الإرهاب أكثر مما اعتمد على شيء آخر. ولكن عقدة نفسية أدركت زياد وأفسدت عليه أمره، وكان يعرف إنكار الناس له واستهزاءهم به، وقد حمله ذلك على أن يسوس الناس بالخوف والذعر، ويحول بينهم وبين أن يجمجموا بما في نفوسهم، وخاض إلى ذلك دماء الناس، وأهدر حقوقهم وكرامتهم. وأنه أحدث لكل ذنب عقوبة، على غير ما سار فيه الخلفاء الراشدين.وقد استحدث زياد عقوبات غير مألوفة . فهو رأى الناس يحرقون الدور على من فيها.لقد شرّع ألواناً من الحكم العرفي لم يقرها الإسلام ولم يألفها المسلمون.

ومات المغيرة بن شعبة سنة خمسين هـ، فعمل زياد حتى ولي الكوفة مكان المغيرة، وسار في أهل الكوفة سيرته في أهل البصرة، مع أن أهل العراق لم يروا منه بعد انتسابه في بني أمية ليناً ، إنما عرفوا منه عنفاً لا حد له، وإسرافاً في الدماء والحقوق لا صلة بينه وبين الإسلام.

وقد سن لغيره من أمراء بني أمية في العراق وللحجاج منهم خاصة، أشنع السنن وأشدها نُكراً.

(3)

خطبة زياد:

( أما بعد. فإن الجهالة الجهلاء، والضلالة العمياء، والغي المُفي بأهله على النار، ما فيه سفهاؤكم ويشتمل عليه حلماؤكم من الأمور العظام. ينبت فيها الصغير ولا يتحاشى عنها الكبير. كأنكم لم تقرءوا كتاب الله ولم تسمعوا ما أعدّ الله من الثواب الكريم لأهل طاعته، والعذاب الأليم لأهل معصيته، في الزمن السرمدي الذي لا يزول. أتكونون كمن طرفت عينيه الدنيا، وسدّت مسامعه الشهوات، واختار الفانية على الباقية. ولا تذكرون أنكم أحدثتم في الإسلام الحدث الذي لم تُسبقوا إليه، من ترككم الضعيف يقهر ويُؤخذ ماله وهذه المواخير المنصوبة، والضعيفة المسلوبة في النهار المبصر، والعدد غير القليل. ألم تكن منكم نهاة تمنع الغُواة من دَلَج الليل وغارة النهار. قرّبتم القرابة وباعدتم الدين. تعتذرون بغير العذر وتغضون على المُختلس، كل امرىء منكم يذب عن سفيهه، صنيع من لا يخاف عاقبة ولا يرجو معاداً. ما أنتم بالحلماء، ولقد اتبعتم السفهاء ، فلم يزل بكم ما ترون، من قيامكم دونهم، حتى انتهكوا حرم الإسلام ثم أطرقوا وراءكم كُنوساً في مكانس الريب. حرام عليّ الطعام والشراب حتى أسوّيها بالأرض هدماً وإحراقاً. إني رأيت آخر هذا الأمر لا يصلح إلا بما صلح به أوله: لين في غير ضعف، وشدة في غير عنف. وإني أقسم بالله لآخذن الولي بالمولى، والمقيم بالظاعن، والمقبل بالمدبر، والمطيع بالعاصي، والصحيح منكم في نفسه بالسقيم، حتى يلقى الرجل منكم أخاه فيقول: انج سعد فقد هلك سعيد، أو تستقيم لي قناتكم. إن كذبة المنبر بلقاء مشهورة، فإذا تعلقتم عليّ بكذبة فقد حلّت لكم معصيتي، فإذا سمعتموها مني فاغتمزوها فيّ، واعلموا أن عندي أمثالها. من نقب منكم عليه فأنا ضامن لما ذهب منه. فإياي ودلج الليل، فإني لا أوتى بمدلج إلا سفكت دمه. وقد أجلتكم في ذلك بمقدار ما يأتي الخبر الكوفة ويرجع إليكم. وإياي ودعوى الجاهلية، فإني لا آخذ أحداً دعا بها إلا قطعت لسانه.وقد أحدثتم أحداثاً لم تكن، وقد أحدثنا لكل ذنب عقوبة. فمن غرّق قوماً غرّقناه، ومنْ أحرق قوماً أحرقناه، ومن نقّب بيتاً نقبنا عن قلبه، ومن نبش قبراً دفناه حياً فيه، فكفوا عني أيديكم وألسنتكم أكفف عنكم يدي ولساني. ولا تظهر من أحد منكم ريبة بخلاف ما عليه عامتكم إلا ضربت عنقه. وقد كانت بيني وبين أقوام إحن، فجعلت ذلك دَبر أذني وتحت قدمي، فمن كان منكم محسناً فليزدد إحساناً، ومن كان منكم مسيئاً فلينزع عن إساءته. إني لوعلمت أن أحدكم قد تقتله السلّ من بغضي لم أكشف له قناعاً ولم أهتك له سراً حتى يبدي لي صفحته، فإذا فعل ذلك لم أناظره. فاستأنفوا أموركم وأعينوا على أنفسكم، فرب مبتئس بقدومنا سيسر، ومسرور بقدومنا سيبتئس.

أيها الناس. إنا أصبحنا لكم ساسة وعنكم ذادة، نسوسكم بسلطان الله الذي أعطانا ونذود عنكم بفيء الله الذي خوّلنا، فلنا عليكم السمع والطاعة فيما أحببنا، ولكم علينا العدل فيما ولينا، فاستوجبوا عدلنا وفيئنا بمناصحتكم لنا. واعلموا أني مهما قصّرت عنه فلن أقصر عن ثلاث: لست مُحتجباً عن طالب حاجة منكم ولو أتاني طارقاً بليل، ولا حابساً عطاءً ولا رزقاً عن إبانة، ولا مُجمِّراً لكم بعثاً. فادعوا الله بالصلاح لأئمتكم، فإنهم ساستكم المؤدبون لكم، وكهفكم الذي إليه تأوون، ومتى يصلحوا تصلحوا ولا تشربوا قلوبكم بُغضكم فيشتد لذلك غيظكم ويطول له حزنكم ، ولا تدركوا له حاجتكم. مع أنه لو استجيب لكم فيهم لكان شرّاً لكم.أسأل الله أن يُعين كلاًّ على كل. وإذا رأيتموني أنفذ فيكم الأمر، فأنفذوه على أذلاله. وأيم الله، إن لي فيكم لصرعى كثيرة، فليحذر كل امرئ منكم أن يكون من صرْعاي}

(4)

فهذه الخطبة الرائعة، مهما يكُن فيها من أثر الصنعة وتأليف المتأخرين، تصوّرشيئين متناقضين أشد التناقض: أحدهما هذا الجمال الفني الذي يأتي من رصانة اللفظ وقربه وإصابته لما أراد زياد من المعاني، وإثارته لما أراد أن يثير من عواطف الفزع والطمع والخوف والأمل. والثاني هذه السياسة المنكرة التي أعلن أنه يسوس بها الناس، والتي لا يعرفها الإسلام ولا يرضاها، ولم يعرفها المسلمون ولم يألفوها، والتي تدل على أن صاحبها طاغية يريد أن يحكم الناس بالبغي، الذي يملأ القلوب رعباً ورهباً، ويغتصب منها الطاعة والخضوع للسلطان اغتصاباً. فالإسلام لا ينقب عن قلب السارق ،وإن نقب عن أهل البيوت. والإسلام لا يدفن الناس في القبور أحياء وإن نبشوا عن الموتى في قبورهم. والإسلام لا يقيم الحدود بالشبهة وإنما يدرؤها ولا يقتل الناس على الريبة، ولا يبيح للسلطان أن يعاقبهم بما كسبت قلوبهم وما دبرت نفوسهم وما أدارت رءوسهم ، وإنما يبيح له أن يعاقبهم بما كسبت أيديهم، ويترك حساب الضمائر لله الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور. والإسلام لا يبيح لوالٍ ولا لخليفة أن يقول: إنه يسوس الناس بسلطان الله الذي أعطاهم وفيء الله الذي خوّلهم، وإنما يفرض عليه أن يقول : إنه يسوس الناس بسلطان الله الذي رفعه الشعب إليه ومنحه له عن رضى منه، لا عن عنف ولا عن استكراه. يفرض عليه كذلك أن يقول: إن الفيء ملك الشعب يأتمن عليه خلفاءه وولاتهم ليضعوه مواضعه، وينفقوه بحقه فيما يجب أن يُنفق من الوجوه. والإسلام لا يُبيح لوالٍ ولا لخليفة على أن له في المسلمين صرعى ، لأنه لا يعلم من ذلك شيئاً حتى يقترف الناس من الجرائم والآثام ما يُوجبه عليه أن يصرعهم بما كسبوا.

وقد وقعت هذه الخطبة من نفوس الذين سمعوها مواقع مختلفة، تصور ما صارت إليه حالهم .

(5)

ولم يبلغ زياد فيه وفي أصحابه ما أراد، ولم يبلغ في غيره وغير أصحابه من شيعة علي وصالحي المسلمين ما أراد أيضاً، ولكنه على ذلك خاض إليهم الباطل خوضاً، وخاض إليهم مع الباطل دماء غزاراً. وليس هنالك إطالة فيما سفك زياد من دماء الناس في البصرة، وما سفك نائبه ” سمرة بن جندب” حين كان زياد يصير إلى الكوفة، حين أصبح لها أميراً. فأخبارها شائعة في كتب التاريخ، ولكن الدكتور طه حسين قد وقف عند محنة بعينها امتحن بها زياد الإسلام والمسلمين، وشاركه معاوية في هذا الامتحان، فتركت في نفوس المعاصرين لهما أقبح الأثر وأشنعه، وكانت صدمة عنيفة لمن بقي من خيار الناس في تلك الأيام.

(6)

محنة ” حُجر بن عدي” وأصحابه من أهل الكوفة. وأوجزها الدكتور طه حسين أشد الإيجاز وأعظمه، لأن مغزاها أعظم خطراً من تفصيلها. فما أكثر الذين قتلوا في الفتنة الكبرى، منذ ثار الناس بعثمان إلى أن استقام الأمر لمعاوية.وما أكثر الذين قتلوا بعد أن ولي معاوية في أعقاب هذه الفتنة، وفيما ثار بين المسلمين من فتن، ولكن محنة حُجر تصور المذهب الجديد في الحكم بعد أن استحالت الخلافة إلى ملك، وتغيّرت سياسة الملوك والأمراء الذين يعملون لهم في الأقاليم ، وأصبح تثبيت الملك ودعم السلطان والاحتياط للنظام أثر في نفوس الملوك والأمراء من النصح للدّين والبقاء على المسلمين. وقد رأينا الخلفاء الراشدين يدرءون الحدود بالشبهات، ويحرّجون على عمالهم في أن يؤذوا الناس في أبشارهم وأموالهم، فكيف بنفوسهم ودمائهم. وقد رأينا عمر رحمه الله يشجع زياداً نفسه على أن يلجلج في الشهادة، حين قذف بعض الناس عنده المغيرة بن شعبة، مخافة أن يفضح رجل صحب النبي صلى الله عليه وسلم. فأما في أيام معاوية وزياد فالناس يؤخذون بالشبهة، ويقتلون بالظنّة، والنظام آثر عند الولاة والملوك من النفوس المؤمنة التي أمر الله ألا تزهق إلا بحقها.

*

وقد كان حُجر بن عدي الكندي رجلاً من شيعة علي المخلصين له الحب، شهد معه الجمل وصفين والنهروان، وكره صلح الحسن، ولكنه بايع معاوية كما بايعه غيره من الناس، ووفى ببيعته دون أن يضطره ذلك إلى أن يرفض علياً أو يبرأ من حبه، بل دون أن يضطره ذلك إلى أن يوافق معاوية وعمّاله في كل ما كانوا يفعلون. وكان حُجر رجلاً من صالحي المسلمين، وفد على النبي صلى الله عليه وسلم وأخيه هانئ بن عدي، فيمن وفد عليه من قومهما. ثم شارك في حرب الشام وأحسن فيها البلاء، وكأنه كان في مقدمة الجيش الذي دخل مرج عذراء قريباً من دمشق، ثم تحول إلى العراق فشارك في غزو بلاد فارس وأبلى أحسن البلاء في نهاوند، ورابط في الكوفة مع المرابطين بعد الفتح. كان رجلاً حراً صادق الدّين، يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويرضى عن السلطان إن أحسن، ويسخط عليه إن أساء. وكان بعد صلح الحسن معارضاً لسلطان معاوية وعامله المغيرة بن شعبة، ولكنه لم يخلع يداً من طاعة، وإنما كان، كما كانت عامة أهل الكوفة، يذعن للسلطان. وكان ينكر أشد الإنكار لسنّة بني أمية في شتم علي وأصحابه على المنبر، ولم يكن يخفي إنكاره، وإنما كان يبادئ به المغيرة بن شعبة، وكان المغيرة يعفو عنه وينصح له ويحذره بطش السلطان.

وكأن موت الحسن ومصير الأمر إلى الحسين قد رفع أهل الكوفة إلى أن يشتدوا في معارضتهم أكثر مما كانوا يفعلون من قبل. وكان حُجر رأس المعارضين. وقد خطب المغيرة ذات يوم وأخذ في شتم علي وأصحابه كما تعوّد أن يفعل، فوثب حُجر فأغلظ له في القول وطالبه بأن يؤدي إلى الناس ما أخر من عطائهم، فهذا أنفع لهم وأجدى عليهم من شتم الأخيار والصالحين. ووثب قوم من أصحاب حُجر فصاحوا بمثل صياحه وقالوا بمثل مقالته، حتى اضطر المغيرة أن يقطع الحديث وينزل عن المنبر ويدخل داره. وقد لامه في هذا اللين قومٌ من أصحابه، فزعم المغيرة أنه قتل حُجراً بحلمه عنه، لأنه سيطمع في الأمير الذي سيخلفه، فيقتله هذا الأمير لأول وهلة. وكره المغيرة أن يقتل خيار أهل المصر ليسعد معاوية في الدنيا ويشقى هو في الآخرة.

*

وأقبل زياد والياً على الكوفة، وكان لحجر صديقاً، فقرّبه ونصح له بإيثار العافية وحذّره من الفتنة وخوفه من بأسه، إن جعل على نفسه سبيلاً. ولكن الأمر لم يلبث أن فسد بين حُجر وزياد. وظهر هذا الفساد حين قتل عربي مسلم رجلاً من أهل الذمّة، فكره زياد أن يقيد من العربي المسلم لذمي، وقضى بالدية. وأبى أهل الذمّي قبول الديّة وقالوا: كنا نُخبر أن الإسلام يسوّي بين الناس ولا يفضل عربياً على غير عربي. وغضب حُجر لقضاء زياد وأبى أن يسكت على إمضائه. وقام الناس معه في ذلك حتى أشفق زياد من الفتنة إن أمضى قضاءه وأمر بالقصاص على كره منه، وكتب في حُجر وأصحابه إلى معاوية يشكو صنيعهم. فكتب إليه معاوية أن ينتظر به وبأصحابه أول حُجة تقوم عليه.

*

ويحدّث المؤرخون أن حُجراً وأصحابه انتهزوا عودة زياد إلى البصرة، فجعلوا يشغبون على نائبه إذا شتم علياً وأولياءه في خطبته. وجعلوا ينكرون عليه كثيراً من أعماله ويشددون في النكير، حتى أحس النائب عمرو بن حُريث شيئاً من الحرج، وكتب إلى زياد يتعجل عودته إلى الكوفة ويذكر له صنيع المعارضين؛ فلما قرأ زياد كتابه قال: ويل أمك يا حُجر، وقع العشاء بك على سرحان. ثم أقبل مسرعاً إلى الكوفة فأنذر وحذّر، ولم يعجل بالتعرض لحُجر وأصحابه ، حتى إذا خطب ذات يوم فأطال الخطبة أظهرت الشيع مللاَ، وصاح حجر: الصلاة . فمضى زياد في خطبته. فصاح حُجر مرة أخرى: الصلاة. وصاح معه أصحابه. وهمّ زياد أن يمضي في خطبته، لكن حُجراً وقف وهو يصيح: الصلاة. ووقف معه أصحابه يصيحون كما كان يصيح . فقطع زياد خطبته ونزل. فصلى وتفرق الناس. وأرسل زياد إلى جماعة من وجوه الكوفة، فأمرهم أن يأتوا حُجراً، وأن يكفّوا عنه من يطيف به من عشائرهم، وأن يردوه عن هذه الطريق التي أخذ في سلوكها. ولكن هؤلاء الوجوه من أهل الكوفة لم يبلغوا من حُجر شيئاً. فعادوا إلى زياد فأنبئوه من أمر حجر بأشياء وكتموه أشياء أخرى، فيما يقول المؤرخون، وطلبوا إليه أن يستأني بحُجر. فلم يسمع منهم، وإنما أرسل من يدعوا له حُجراً، فامتنع عليه. فأمر الشرطة أن يأتوه به، واستخفى حُجر فلم يقدر عليه زياد، حتى أخذ محمد بن قيس بن الأشعث، زعيم الشرطة، وأمر بسجنه، وتوعده بالقتل والمُثلة إن لم يأته بحُجر. فجاءه بعد أن أخذ منه أمان حُجر على نفسه حتى يرسله إلى معاوية، فيرى فيه رأيه. فأعطى زياد هذا الأمان.

*

وأقبل حُجر، فأمر زياد بإلقائه في السجن، وجدّ في طلب من قدر عليه من أصحابه، حتى جعل في السجن مع حجر ثلاثة عشر رجلاً بعد خطوب ومحن. ثم طلب إلى أهل الكوفة أن يشهدوا عليهم، فشهد قوم بأنهم تولوا علياً وعابوا عثمان ونالوا من معاوية. فلم يرض زياد هذه الشهادة وقال: إنها غير قاطعة. فكتب له أبو بُردة بن أبي موسى الأشعري شهادة بأن حجراً وأصحابه قد خلعوا الطاعة، وفارقوا الجماعة، وبرئوا من خلافة معاوية، وهمّوا بإعادة الحرب جذعة فكفر كفرة صلعاء.

وهنا رضي زياد وطلب إلى الناس أن يمضوا هذه الشهادة. فأمضاها خلق كثير، حتى بلغ الشهود سبعين رجلاً، فيما قال المؤرخون. وكان منهم جماعة من أبناء المهاجرين، بينهم ثلاثة من بني طلحة، وعمر بن سعد بن أبي وقاص والمنذر بن الزبير. ولم يتحرّج من أن يكتب أسماء نفر لم يشهدوا ولم يحضروا هذه الشهادة. فمن هؤلاء من برأ نفسه أمام الناس، ومنهم من كتب إلى معاوية يبرئ نفسه من هذه الشهادة. وهو شريح القاضي ، الذي شهد أن حُجراً رجل صالح من المسلمين، يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويصوم ويحج ويعتمر، وأن دمه حرام. فلما قرأ معاوية كتاب شُريح لم يزدة على أن قال: أما هذا فأخرج نفسه من الشهادة.

*

وحُمل حُجر وأصحابه إلى معاوية، فأمر ألا يدخلوا دمشق وأن يحبسوا بمرج عذراء. ويقول المؤرخون إن حُجراً لما عرف أنه بهذه القرية قال: والله إني لأول مسلم نبحته كلابها وأول مسلم كبّر بواديها.

قرأ معاوية كتاب زياد وشهادة الشهود، وأمر فقرئ هذا كله على الناس. ثم استشار في أمرهم من حضره من أشراف قريش ووجوه أهل الشام . فمنهم من أشار عليه بحبسهم، ومنهم من أشار عليه بتفريقهم في قرى الشام. وأقام معاوية وقتاً لا يقطع برأي. فكتب إلى زياد بتوقفه في أمرهم. وكتب إليه زياد يعجب من تردده ويقول له: إن كانت لك حاجة بالعراق فلا تردهم إلي.

هنا استبان الرأي لمعاوية، فأرسل إلى هؤلاء الرهط من يعرض عليهم البراءة من عليّ ولعنه وتولي عثمان، فمن فعل منهم ذلك أمن، ومن أبى ذلك قتل.

*

وقام جماعة من أشراف أهل الشام فشفعوا عند معاوية في بعض هؤلاء الرهط، وقبل شفاعتهم ، حتى لم يبق منهم إلا ثمانية، عُرضت عليهم البراءة من علي فأبوا، فأخذ في قتلهم في قصة طويلة. ورأى اثنان السيوف المشهورة والقبور المحفورة والأكفان المنشورة، كما قال حُجر قبيل موته ، فطلبا أن يُحملا إلى معاوية وأظهر أنهما يريان رأيه في علي وعثمان. فأجيبا إلى طلبهما ، وقتل الآخرون، وهم ستة. وكانوا أول من قُتل صبراً من المسلمين.

*

وحملا الرجلان إلى معاوية، فأما أحدهما فأظهر البراءة من علي بلسانه، شفع فيه شافع من أهل الشام، فحبسه معاوية شهراً، ثم ألزمه الإقامة حيث أراد من الشام، وحرم عليه أرض العراق. فأقام في الموصل حتى مات.

أما الآخر فأبى أن يبرأ من علي وأسمع معاوية في نفسه وفي عثمان ما يكره. فرّده معاوية إلى زياد وأمره أن يقتله شر قتلة. فأمر به زياد فدُفن حياً.

(7)

وقد ذُعر المسلمون في أقطار الأرض لهذا الحدث. وآية ذلك أن عائشة علمت بتسيير هؤلاء الرهط من الكوفة، فأرسلت عبد الرحمن بن الحارث بن هشام إلى معاوية يراجعه في أمرهم. فوصل عبد الرحمن إلى الشام فوجد القوم قد قُتلوا. فقال لمعاوية: كيف ذهب عنك حلم أبي سفيان ؟. فاجابه معاوية حين غاب عني أمثالك من حلماء قومي. وقد حمّلني زياد فاحتملت.

وقيل أن سمع بالخبر عبدالله بن عمر فأطلق حبوته، وتولى الناس يسمعون نحيبه. وقال لقومه الذين كانو معه من كندة: ألاترون أنا نقاتل لقريش ونقتل أنفسنا لنثبّت ملكها، وأنهم يثبون على بني عمنا فيقتلونهم.

(8)

ما أشبه الأمس باليوم، وليس ما ولغ فيه زياد بغريب، وما دفنه مسلماً حياً بعجيب، فقد تحدثت الأفواه بأن مثل ذلك تمّ في السودان وفي التاريخ القريب، وأن من لم تقتله فرقة الإعدام دُفن حياً. وجميع الذين يركبون مطيّة السلطان باسم الدين ولغوا في دماء المسلمين والناس. واشتدّوا غلظة ونشروا الرعب والقتل بين الناس. لم يردعهم دّين ولا تقوى ولم تمنعهم أخلاق. فأصحاب الوثوب إلى سدة الحكم و السلطان، أغلبهم من تنظيم الإخوان المسلمين. أبدلوا دينهم بدنياهم، واختاروا الفعل النكير من دون أصحاب الدنيا. وزياد بن أبيه أنموذج، استباح لهم الكيد والمكر والخسّة، بل القتل الشنيع. وللتاريخ صولات وجولات، وسوف تنكشف الحقائق مهما تستّر أصحابها، وعندها تظهر وينكشف الغطاء عن المجرمين.

عبدالله الشقليني

23نوفمبر 2018

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى