(محاذير بدائية).. بقلم الطاهر ساتي

السودان اليوم:

:: الحمد لله على كل حال، وقدّر الله وما شاء فعل، فالسبت كان يوماً مؤلماً وصادماً، ليس فقط لأهل أم درمان وتُجارها، ولكن لأهل السودان جميعاً.. فالحدث مؤلم للغاية هو حريق سوق أم درمان.. والسلطات المحلية، كما عجزت عن تنظيم وتخطيط السوق قبل الحريق، عاجزة أيضاً عن تحديد حجم الخسائر، بحيث يطلق كل مسؤول رقماً (من رأسو).. ولكن عند من يعرفون قيمة الأشياء، فإن سوق أم درمان ليس محض متاجر للتجارة، بل كان من المناطق الأثرية والمزارات السياحية.. فالسوق أقدم وأعرق أسواق بلادنا، بحيث يعود تاريخ تأسيسه إلى قرنين من الزمان أو أكثر، أي بعمر المدينة التاريخية والعاصمة الوطنية (أم درمان).
:: وكما تشهد متاجر السوق وأزقتها وشوارعها تنوع أهل السودان حالياً، كانت ذات الأزقة والمتاجر تشهد سابقاً تنوع الأجناس المختلفة، ولم يكن مدهشاً أن يجاور دكان الهندي دكان اليماني، وأن يكون دكان اليهودي مجاوراً لدكان المصري، وبينهم أقباط السودان وكل أعراق وقبائل السودان.. وبهذا التنوع الفريد، قبل أن يكون مكاناً للبيع والشراء، كان سوق أم درمان مزاراً للأجانب، وجاذباً للسواح طوال أزمنة السودان الخضراء، أي قبل عهد الرمادة.
:: ولكن مثل الكثير من الأشياء التي فقدت رونقها، فقدت أسواق أم درمان أيضاً رونقها و(قيمتها الأثرية)، وتكدست بالفوضى التي ترعاها السلطات الحكومية مقابل (الربط المقدر).. وليس مهماً إغلاق شوارع السوق بالترابيز والصناديق لحد عجز عربات المطافئ عن السير فيها، طالما أصحابها يدفعون رسوم الفوضى للمحلية.. وليس مهماً التكدس لحد تراكم المتاجر فوق بعضها لحد فشل شرطة المطافئ عن السير فيها، طالما أصحابها يدفعون رسوم التكدس للمحلية.. فمن نسميهم بالمسؤولين بالمحلية والولاية، عندما احترق السوق خرجوا يحاضرون الناس عن الفوضى، وتناسوا أنهم رعاة الفوضى.
:: وليس سوق أم درمان فحسب، بل كل الأسواق بكل مدن السودان، وكل الشوارع، وكل الأشياء في بلادنا، ما هي إلا مرتع للفوضى التي ترعاها السلطات مقابل المال.. ادفع ثم افعل ما تشاء، شعار المرحلة.. وقديماً قالوا: إذا أردت أن تعرف مدى تحضر أي مجتمع، فانظر إلى أنديته وما فيها من أنشطة.. وإلى شوارعه وما عليها من لافتات ومحاذير.. وإلى مجالس أهله، وما هم فيها يتحاورون.. وإلى فضائياتهم وإذاعاتهم وما تبثها من إعلانات وبرامج.. وإلى صحفهم، وما تحملها من حوداث وقضايا.. وإلى أمراضهم وأسبابها.. وإلى مستوى النظافة في مركباتهم العامة.. وإلى صالات المطارات والموانئ.
:: وإلى الأسواق وتاكسي المدينة و.. و.. تلك وغيرها، بمثابة لوحات ناطقة بلسان حال المجتمعات وسلطاتها.. وأي منها تكفي لكشف عقل المجتمع والحكومة.. إن كان عقلاً قابعاً في القاع على ركام الجهل، أو كان عقلاً محلقاً فوق القمة بأجنحة الوعي.. وليس الأهل بسوق أم درمان فحسب، بل ما تزال كل مجتمعات بلادنا بحاجة إلى محاذير بدائية من شاكلة تنظيم الأسواق وفتح شوارعها والتحسب للحرائق بفتح المسارات، فالمجتمعات بحاجة إلى مثل هذه المحاذير التقليدية رغم أنها لا تعيش في القرون الوسطى.. وما لم تتعظ لجان الأسواق الأخرى وتنظم أسواقها، والتي لا تقل تكدساً وفوضى عن سوق أم درمان، فلن يكون الحريق الأخير!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى