نبيل سليم: عِقد الجلاد والجمهور.. “الحُب في ذَاتُو مُبَرّر كافي”

عندما بدأت شمس الخميس الماضي تلوح للمغيب، تَدافعت جماهير فرقة عِقِدَ الجلاد، صَوبَ حديقة عبود بضاحية بحري، لتكحيل عُيُونهم برؤية أصحاب الياقات الخَضراء وإمتاع أسماعهم بعد طُول غياب عن الحفلات الجماهيرية بسبب الخلافات التي ضَربت الفرقة وقسّمتهم لاثنين.

يومها نجحت الفرقة في إنهاء أزمة “أين تسهر هذا المساء” لمئات السُّودانيين، الذين ضَاقَت بهم جنبات مسرح الحديقة، مُبدِّدين ليالي الخرطوم التي بَاتَت مُوحِشةً مُؤخّراً، لا دُور سينما ولا حتى شارع نيل، فقط “بنابر” مرصوصة أمام بائعات الشاي ﻓﻲ أﻃﺮاﻑ ﺍﻟﻤﺪﻳﻨﺔ بعد أن أصبحت “ﻟﻘﻤﺔ العيش ﺿﻨﻴﻨﺔ.. ليل ﻭﻧﻬﺎﺭ ﺗﻜﺎﺑﺲ ﺑﻴﻦ ﻧﺎﺭﻳﻦ ﺗﺴﺎﺳﻖ”.

الكل جاء يحمل لافتته، منهم من جاء يحمل الوطن، وآخرون الحبيبة، حتى صورة طالب جامعة الخرطوم عاصم عمر الذي يُواجه تُهماً تصل عُقوبتها الإعدام كانت حاضرة، لكن جميعهم اتّفقوا على حُب العِقد.

بمُجرّد سحب ستار المسرح، تَعَالت هتافات الجماهير وبدأ أعضاء الفرقة التوافد إلى حافة المسرح؛ لكن الجماهير حَبَسَت أنفاسها عندما تأخّر قدوم أيقونة الفرقة “شَمّت” العائد بعد غيبةٍ، وكاد أن يتسبّب في انقسام الفرقة للمرة الثانية بعد رحيل عثمان النو.

وبدأ الهتاف يعلو “شَمّت شَمّت”، قبل أن يُسجِّل اسمه في دفتر الحُضُور مُعلناً إغلاق باب الخلافات، وردّد البعض: “وجع وجع شَمّت رجع”.

تَغَنّى رفاق شريف شرحبيل للوطن والجمال والحُرية والسلام “تباً للحرابة.. مجداً للسلام”، كما غَنّوا للسودان المُتعدِّد الأعراق والثقافات “شوف فيني كم سحنة لساني نضمو برا”.

بدأت الفرقة المُوسيقية بقيادة طارق جبريل، تعزف “يا جمال النيل والخرطوم بالليل”، فازدادت الخرطوم المُتعطِّشة للفرج جمالاً، ورَدّدَت الجماهير “أجمل ليالي هنا لمّا العقد يظهر”، مُؤكِّدين أنّ “الحُب في ذاتو مُبرِّر كافي”.

بعد الأغنية الأولى، صعد على المنبر رَجلٌ في كامل زيِّه السُّوداني “جلابية وعِمّة وسديرية”، لكن سُرعان ما هتفت الجماهير “القَدّال.. القَدّال”.

القَدّال حيّا عدداً من نجوم المُجتمع الذين شكّلوا حُضُوراً في الصفوف الأمامية أبرزهم أفراد عائلة شاعر الشعب محجوب شريف.

وأضاف مُخاطباً الجماهير بعد أن حيّاهم “أنتو حتجبروا العقد تتماسك” وهنا تعالت هتافات الجماهير “طواقي الخوف”.

“فيا الخرطوم إذا نامت عليك عيون، تشوف الضلمة في الضحى والنهار مخنوق” كانت الأغنية الثانية في الأمسية الخرطومية “صداح الغُنا”.

عندما بدأت الفرقة الموسيقية عزف رائعة شاعر الشعب “يابا مع السلامة” فتحت الفرقة “نفاج حُزن” في نفوس الذين تَرَجّل آباؤهم ودوّنوا أسماءهم في دفاتر الراحلين، بالرغم من أنّ الأغنية تحمل أكثر من تفسيرِ، “أبواب المدينة بتسلِّم عليك.. والشارع يتاوق يتنفّس هواك”.

في الأمسية الخرطومية كان الشاي حُضُوراً “يا تلك الترامس وينو الصوتو هامس، كالمترار يساسق يمشي كما الحفيف، كم في الذهن عالق ثرثرة المعالق والشاي اللطيف، تصطف الكبابي أجمل من صبايا”. يابا.. أبووووي يا يابا.

“الهجرة مِن زَمناً قَديم زي سَاقية فينا مُدوِّرة”، لكن مع تدهور الأوضاع الاقتصادية في البلاد مُؤخّراً، تكاثرت الهجرة خَاصّةً وسط الشباب في مُحاولة لستر حال أهاليهم، تاركين “الوادي الخصيب، حيث الموية عذبة والغصن الرطيب”، مُحمّلين “بآمال تفيض متحجرة”.

هؤلاء لم تنساهم الفرقة فتغنّت لهم “ولداً متين بقى للسفر والاغتراب والدردرة”، عبر رحلةٍ طويلةٍ بلا زادٍ أو متاعٍ بدأت من حلفا مُروراً بمحطة الوطن الكبير عطبرة التي كانت تضج ومُتحضِّرةً يوماً ما “كانت بلادك أم صار السفر والديك”.

في ذات طريق السفر الطويل والآمال العراض تَغَنّت الفرقة “الفكرة”، حيث “شباك حلم مقفول عيش المسافة يطول، للفاتوا ما رجعوا.. يا سكة لي بيتنا يا عتمة يا مشوار، يا شارع الحلة ما ضاعت الذكرى للغابواوالحضروا”.. أطفالنا والأمّات آمالنا وأحلامنا.

وعندما وصلت الفرقة عند المقطع الذي يقول “علِّمنا يا مسكين ورِّينا عايش كيف؟” كأنما استلفت لسان الذين يبحثون عن إجابة كيف يعيش المساكين مع ارتفاع الأسعار وانعدام البدائل، قبل أن تعود وتُؤكِّد بأنّ “البذرة مهما يكون حتبقى يوم شجرة”.

كما غَنّت الفرقة لـ “يابا”، كانت لا بُدّ أن تُغنِّي للأم “حاجة آمنة”، الأغنية التي تُصوِّر حال مُعظم الأُمّهات في زمان الأزمات وهُموم مُكوِّنات “الحَلَّة” والسؤال العريض مع اقتراب مواعيد وجبات الطعام، حيث البطون الخاوية “حَبّة عدس ما بسوِّي شيء، وينو البصل وينو اللحم، حَبّة عجين ما بسوِّي شيء، وينو الدقيق وينو الفحم”.. لكن ليس أمام شقيقات حجة آمنة “سوى الصبر”، لأنّ الشارع “قسى واتحجّر”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى