مَكَانَا وين؟.. بقلم عبد اللطيف البوني

السودان اليوم:

(1 )
بعد تجهيز الموضوع، أقبلت على اللابتوب لإنزاله. طبعاً الكتابة آخر، شيء يفعله الكاتب، وبعد فتح الجهاز شرعت في الكتابة بسم الله/ حاطب.. ولما وصلت التاريخ وجدته 17 نوفمبر! عليَّ القسم انخلَعتَ، فإن نسيتُ كل الأيام التي مضت من حياتي فلن أنسى 17 نوفمبر. لم أكن واعياً بالانقلاب الذي حدث في ذلك اليوم من عام 1958م، ولكنني متذكر جداً النصف الأول من ستينات القرن الماضي ونحن في المدرسة الصغرى (الأولية فيما بعد ثم الإبتدائي والآن الأساس وعلى وين يا مشاعر الدولب؟)، ففي اليوم نحتفل بعيد الثورة وكنَّا نطوف القرية حاملين الأعلام ونحن ننشد (الليلة عيدك يا ثورة، و نحن جنودك يا ثورة)، وكانت كل القرية نساءً ورجالاً وشيباً وشباباً تخرج معنا، وبعد الطواف نرجع للمدرسة ويبدأ الاحتفال من مسرح المدرسة غناءً وتمثيلاً وجوائز (إنه يوم لا يُنسى).
(2 )
عن هذا اليوم حكى الفنان الكبير محمد وردي أنه امتطى دراجته وخرج من المنزل الذي يقيم فيه بالسجانة متّجهاً للمدرسة الصغرى التي يعمل بها في الديم، ويومها كان وردي حديث عهد بالعاصمة جاءها منقولاً بمساعدة قريبه محمد نور الدين لكي يظهر كفنان، فقابله أحد بلدياته وقال له إن البلد بها انقلاب، يا مهمد الجيش استلم البلد، وتاني مافيش أحزاب ولا كلام فاضي، يا شيييك؟ والله يا مهمد.. ففرح وردي بالخبر وترجم فرحه هذا بالقصيدة المشهورة (في 17 هبَّ الشعب طرد جلاده/ في 17 قالوا الظلم الله لا عاده/ جيش الباسل هبَّ وعلا راية الجمهورية) وجاء فيها (لا ضمائر تتباع/ لا سادة لا رعاع)، وقد أكملها ملحنة وذهب للإذاعة وسجلها بعد نسب كلماتها لصديقه وشاعره الذي تبناه في ذلك الوقت إسماعيل حسن، وتم بثها على الهواء مباشرة فملأت الدنيا وشغلت الناس.
(3 )
استقبل الناس نظام عبود بفرحٍ ثم ما لبثوا أن ملّوه وزهجوا منه وبدأوا يعملون على زواله، ولعل هذا قد حدث مع كل الانقلابات إلى يوم الناس هذا، ثم بعد أن أطاحوا بعبود في أكتوبر 1964 ومع أول حكومة أعقبته بدأوا يحنون إليه، ونذكر هنا قصة إبراهيم عبود التي رواها بنفسه للأستاذ مالك بدري، كيف أنه عندما ذهب لسوق الخضار فوجأ باستقبال الناس وكيف هتفوا له (ضيعناك وضعنا وراك يا عبود)، وكيف أن الباعة غمروه بالهدايا وكيف أنه عجز عن سواقة عربته وكيف تطوع أحدهم بسواقتها وكيف تطوع سائق تاكسي بحمل عبود والسير به والعربة من خلفهم إلى أن أوصله منزله بالعمارات (مشهد سوداناوي بس للأسف ما عندنا دراما).
(4)
حب الناس لعبود يتزايد كل يوم، ليس لإنجازاته فهي قليلة جداً قياساً بإمكانيات السودان في ذلك الزمان؛ فعبود ترك في الخزينة ستين مليون جنيه إسترليني كان يمكن أن تجعل من السودان كوريا الجنوبية في ذلك الزمان ولكن… فالحب لعبود راجع لسوء وفشل من جاء بعده، فأصبحت إنجازاته القليلة هي الأضخم، ورغم أنه بدأ العنف السياسي من سجنٍ وإعدام، فأصبحت سجونه وإعداماته هي الأقل. فإذن يا جماعة الخير الشغلانة نسبية؛ فثورة أكتوبر ثورة شعبية ينبغي عدم تبخيسها والتقليل من شأنها فهي ليست مسؤولة عما حدث بعدها. وطالما أنه كل حاكم في هذه البلاد مهما كان سوءه أحسن من الذي يأتي بعده، عليكم أن تبحثوا في مكان الأزمة؛ عليكم أن تبحثوا في مكان الشيطان اللابد فيها، أي المختفي، على قول جدنا الخليفة عبد الله عليكم أن تعرفوا (صرة العمل) المعمولة للبلد دي (مَكَانَا وين.. مَكَانَا وين، مَكَانَا وين؟).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى