مآثر علماء المسلمين في علم الفلك

يبعث الكون بنظامه البديع، وترتيبه المتناسق في نفس المتأمل معالم الدهشة والإجلال للخالق العظيم سبحانه وتعالى، وقد حرص الإنسان منذ القدم على سبر أغوار هذا الكون الفسيح، والفضاء الواسع، والتعرف على دقائقه، والغوص في أعماقه، وقد اهتدى أحياناً وانتفع، وضل أيضاً ودخل في غيابات الخرافة والوهم، مدفوعاً بالرهبة من عظمة تلك الكائنات.وقد اهتم العرب بدورهم بهذا الكون ولعل مرجع اهتمام العرب بالفلك في الجاهلية قبل الإسلام، هو طبيعة حياة الخلاء في الصحراء، وما يستتبعها من اهتمام بالتطلع إلى صفحة السماء في الليالي الطويلة، سواء لتمضية الوقت، أم للاهتداء بها في الترحال والتنقل، حيث يعز وجود معالم تعين على تبين الطرق بوضوح. والشيء المثير هو أن النتائج الدقيقة التي حصل عليها العلماء المسلمون أتت من طراز رفيع، ومن المؤكد أن هذه إنجازات لا يستهان بها. وكان من الطبيعي أن يهتم المسلمون بعلم الفلك، وذلك بدافع من دينهم وعباداتهم. كالصلاة والصوم والحج ونحوها؛ فأنشأوا المراصد في شتى العواصم، وتعرفوا على كثير من أجرام السماء، وما زالت بصمات أصابعهم باقية على قبة السماء ممتلئة بأسماء النجوم العربية.
المسلمون وعلم الفلك
اهتم المسلمون بعلم الفلك تمشيا مع قول الله تعالى: {قل انظروا ماذا في السموات والأرض} {إن في السموات والأرض لآيات للمؤمنين}. وقد استطاعوا تعيين أوقات الصلاة من ارتفاع الشمس نهارا والنجوم ليلا، كما حددوا اتجاه القبلة في كل مكان وصلوا إليه. فمن يرجع إلى المؤلفات والرسائل التي تركها لنا فلاسفة وعلماء العرب والمسلمين يجد أنهم اهتموا اهتماما كبيرا بدراسة هذا العلم (علم الفلك)، وإذا كان هؤلاء العلماء قد تأثروا بالبحوث التي سبقتهم في هذا المجال إلا أنهم أضافوا من جانبهم إضافات لها، فقد نشطت قرائحهم وشحذت همتهم باتصالهم الفكري بالإغريق وبالهنود، فأخذوا عنهم من العلوم الفلكية والعلوم الأخرى؛ ففي عام 152 هـ، ظهر أحد الهنود في بلاط الخليفة المنصور ومعه كتاب (سدهانتا) الذي وضعه براهما جوبتا سنة 628 م، فأمر الخليفة بنقله إلى العربية، وقام بدراسته وتنقيحه بعد ذلك الخوارزمي تلبية لرغبة المأمون، وأمر المأمون كذلك بتصحيح خرائط بطليموس الفلكية بعد الأرصاد التي قام بها في بغداد ودمشق، كما وضع طريقة للقياس بالدرجات، وتمكن العرب بعد ذلك من تحديد مواقع الأجرام السماوية ومداراتها بواسطة آلات القياس والرصد التي ابتكروها لذلك.ووضع في أوائل القرن الثالث من الهجرة أحمد الفرغاني كتابا في العلوم الفلكية نقل بعد ذلك إلى اللاتينية، وكان يعتبر أهم المراجع في العصور الوسطى في أوروبا.
وقد اعترف كثير من علماء الغرب والمستشرقين بأهمية تلك الإضافات وأهمية مساهمات العرب والمسلمين في تقدم علم الفلك.
فما هو علم الفلك؟

مفهوم علم الفلك
علم الفك هو العلم الذي يبحث في ظواهر الأجرام السماوية وقوانين حركاتها المرئية والحقيقية، ومقاديرها وطبائعها، كما يقسمونه إلى مجموعة من الأقسام منها: علم الهيئة الكروي، وهو العلم الذي يعتمد على حساب المثلثات الكروية وأيضا يتصل بالجغرافيا الرياضية. ومن أقسامه أيضا علم الهيئة النظري، وعلم الميكانيكا الفلكية، وعلم طبيعة الأجرام الفلكية. ومن أوائل علماء الفلك المسلمين ثابت بن قرة والبيروني، وقد كلفهما المأمون بقياس قطر الأرض فأنجزوا تلك المهمة على خير وجه.

علماء الفلك ومؤلفاتهم
وإذا رجعنا إلى كتاب العلوم للفارابي وهو من كتبه المهمة التي تبحث في الأجرام السماوية كما يبحث عن الأرض من خلال علاقة ما يحدث منها بالأجرام السماوية نجد أن هذا العلم يبحث في عدد الأجرام وأشكالها وموضع كل منها بالنسبة للآخر، ويبحث في ترتيبها في العالم ومقاديرها وأبعادها بالنسبة للأرض، كما يبحث ما يعد عاما لجميع الكواكب، ثم يشرح كل كوكب على حدة، وما يحدث عن هذا الكوكب من حركات ومن ظواهر، كظاهرة الكسوف وغيرها من الظواهر. كما يبحث في حركة الكرة الأرضية اليومية بالنسبة للشروق والغروب واختلاف طول الليل والنهار من إقليم إلى آخر، كل ذلك نجده عند الفارابي في كتابه إحصاء العلوم.
ويرى القزويني أن مكث الشمس في الكسوف لا يكون طويلا كمكث القمر في الخسوف، لأن قاعدة مخروط الشعاع إذا انطبق على صفحة القمر انحرف عنه في الحال فتبتدئ الشمس بالانجلاء. ويقول القزويني أيضا: «ويختلف قدر الكسوفات باختلاف أوضاع المساكن لسبب المنظر، وقد لا تنكسف الشمس في بعض البلاد أصلا إذا هي انكسفت في وقت ما في بعض البلاد الأخرى».
وقد برهن القزويني على كروية الأرض، وهو بذلك يسبق كوبرنيكس بحوالي قرنين ونصف قرن من الزمان، يقول القزويني: «والأرض كرة، والدليل على ذلك أن خسوف القمر إذا كان يرى من بلدان مختلفة فإنه لا يرى فيها كلها في وقت واحد، بل في أوقات متعاقبة، لأن طلوع القمر وغروبه يكونان في أوقات مختلفة وفي أماكن مختلفة. والأرض متحركة دائما على الاستدارة، والذي نراه من دوران الفلك إنما هو دوران الأرض، على نفسها، لا من دوران الكواكب».
أهمية علم الفلك
لا بد أن نضع في الاعتبار تشجيع الدين الإسلامي على النظر في الكون، وارتباط الموضوعات الفلكية بفروض الدين الإسلامي، إضافة إلى ذلك اتجاه المسلمين إلى الكعبة يتطلب أن يعرفوا جهة القبلة؛ وهذا يعد داخلا في علم الهيئة الكروي. وهناك أيضا موعد الصيام ومعرفة ظهور هلال رمضان، وغير ذلك من أحكام الشريعة الإسلامية.
لقد كان العرب بحاجة إلى معرفة الكواكب، ومواقع طلوعها وغروبها إذ أنهم يهتدون برؤية الكواكب في سيرهم، وفي قوافلهم التجارية، وفي سير جيوشهم، إنهم كانوا يدركون أنه لولا معرفتهم بأحوال الكواكب لما تمكنت قوافلهم التجارية من أن تشق طريقها في الصحراء. ونحن نجد في القرآن الكريم أكثر من إشارة إلى ذلك منها قول الله تعالى: {والسماء ذات البروج} وقوله تعالى: {ولقد جعلنا في السماء بروجا وزيناها للناظرين}. وقوله تعالى: {هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب}.
ويمكن القول بأننا نجد صلة بين الأحكام الشرعية من جهة والمسائل الفلكية من جهة أخرى. وهذه الصلة قد شجعت المسلمين على الاهتمام الفائق بمعرفة الأمور المتعلقة بالسماء والكواكب، بل إننا إذا كنا نجد في أسباب مدح الاشتغال بالطب، حاجة الناس إلى علم الطب، فإننا نجد أيضا أن أصحاب العلوم الدينية قد ذهبوا إلى مدح علم النجوم والاشتغال به لحاجة الناس إليه.
وقد أشار الغزالي إلى هذا الجانب حين عرض لموقف أناس يظنون أن الدين ينبغي أن يؤيد بإنكار كل علم منسوب إلى الرياضيين حتى أن هذا الفريق قد أنكر كل علومهم وادعى أن المشتغلين بالمسائل الفلكية يتصفون بالجهل وأن أقوالهم في الكسوف والخسوف تعد خاطئة، وعلى خلاف الشرع. إذ أن الغزالي يعارض موقف هذا الفريق حين يقول أنه ليس في الشرع تعرض لهذه العلوم بالنفي والإثبات ولا في هذه العلوم تعرض للأمور الدينية، ويذكر عن الرسول [ قوله أن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينخسفان لموت أحد ولا لحياته فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى ذكر الله تعالى وإلى الصلاة. ونستطيع في هذا المجال أن نبلور أبرز مجهودات العرب والمسلمين بالقول: بأن العرب قبل العصر العباسي قد عرفوا ولو بطريقة بدائية رصد الكواكب والنجوم وحركاتها والكسوف والخسوف بالنسبة للشمس والقمر، كما استطاعوا الربط بين حركات الأجرام السماوية من جهة وما يحدث في العالم من حيث الحظ والمستقبل والحرب والسلم والمطر من جهة أخرى. وهذا ما كانوا يسمونه علم التنجيم.
أما تجاوز الطريقة البدائية إلى الطريقة العلمية الدقيقة إلى حد كبير فقد كان ذلك في العصر العباسي نظرا لانتشار حركة الترجمة، مثل ترجمة مؤلفات علماء الإغريق وغيرهم من الأمم كالسريان والفرس والهنود.
وقد تمت هذه الترجمات في عهد بعض الخلفاء العباسيين، الذين اهتموا بترجمة الكتب في حركات النجوم والأفلاك.

كتب الفلك
الواقع أننا إذا تحدثنا عن تاريخ الفلك سواء من الوجهة النظرية أو من الوجهة العملية، فإننا لا يمكن أن نتغافل عن الدور الكبير الذي قام به علماء العرب في هذا المجال، الذي يمثل مجالا هاما من مجالات تاريخ العلوم عند العرب، وإذا رجعنا إلى الكتب الفلكية التي تركها لنا العرب، فإننا نستطيع تقسيمها إلى مجموعة أقسام:
قسم يعد أقرب إلى مدخل لعلم الهيئة، وهي الكتب التي فيها توضيح لمبادئ هذا العلم على وجه الإجمال ومن الكتب التي تمثل ذلك:
كتاب جوامع علم النجوم وأصول الحركات السماوية لأحمد بن محمد بن كثير الفرغاني والذي توفي في القرن الثالث الهجري.
كتاب تشريح الأفلاك لبهاء الدين محمد بن الحسين العاملي، والذي توفي في القرن الحادي عشر الهجري.
كتاب الملخص في الهيئة للجعميني الذي توفي في القرن الثامن الهجري.
كتاب التذكرة لنصر الدين الطوسي. وقد لاحظنا أن هذا القسم يهتم بتوضيح مبادئ علم الفلك. ونجد بالإضافة إلى ذلك كتبا تمثل مجالا في البحوث الفلكية، باستفاضة واستقصاء في الجداول العددية والبراهين الهندسية التي تتعلق بالفلك ونجد أن العرب قد تركوا لنا أكثر من كتاب يمثل هذا المجال ومن هذه الكتب:
كتاب القانون لأبي الريحان البيروني، والذي توفي في القرن الخامس الهجري، وكان معاصرا لابن سينا.
كتاب نهاية الإدراك في دراية الأفلاك لقطب الدين الشيرازي، الذي توفي في القرن الثامن الهجري.
كما نجد كتباً تهتم بالبحث في أعمال الحساب والرصد، أي في الجداول العددية المتعلقة بالأفلاك، أي حساب الفلك، بمعنى الجداول الرياضية التي يقوم عليها كل حساب فلكي.
ونجد بالإضافة إلى هذه الأقسام، قسما يتمثل في الكتب التي تحاول تعيين مواضع النجوم في السماء من حيث الطول والعرض، ومن هذه الكتب:
كتاب الكواكب والصور، وقد ألفه أبو الحسين عبدالرحمن بن عمر الصوفي الذي توفي في القرن الرابع الهجري / القرن العاشر الميلادي.
كتاب جامع المبادئ والغايات من تأليف أبي الحسن المراكشي والذي توفي في القرن السابع الهجري / القرن الثالث عشر الميلادي.
ومن إنجازات وإسهامات العلماء العرب والمسلمين في علوم الفلك أنهم ترجموا كتب الفلك للأمم التي سبقتهم وصححوا كثيرا من الأخطاء التي وردت فيها وأضافوا إليها تحقيقا وكشفا وخالفوها في نواح كثيرة، ومن هذه الكتب:
كتاب المجسطي، وكتاب الأربع مقالات لبطليموس. وكتاب مفتاح النجوم الذي ينسب إلى هرمس الحكيم وغيرها. وقد فطنوا إلى قصور الحواس عن الإدراك المباشر وحاولوا أن يعوضوا هذا القصور بآلات وأجهزة تمكن من إدراك مــــــــــــــــا صغر أو بعد من الظواهر الفلكية. وكان بعض هذه الآلات والأجهزة اختراعا عربيا، في حين أن بعضها الآخر أخذه العرب والمسلمون عمن سبقهم، ولكنهم تناولوه بالتهذيب والتحسين ليؤدي وظيفته على وجه أفضل.
وقد أتقن العرب والمسلمون صناعة الإسطرلابات، ووضعوا الأزياج الفلكية الدقيقة، ولم يقفوا في دراستهم وأبحاثهم الفلكية عند النظريات بل تجاوزوا ذلك إلى العمليات والرصد، وربطوا علم الفلك بأغراض دينية مثل معرفة سمت القبلة ومعرفة هلال رمضان وتوقيت الشعائر والمناسبات الدينية المرتبطة بحركة الظل وأحوال الشفق ورؤية الهلال وتحديد الخسوف والكسوف اللذين لهما صلاة معينة وما إلى ذلك.
ومن إنجازات العرب والمسلمين الفلكية أيضا، معرفتهم بأصول الرسم على سطح الكرة، وقولهم باستدارة الأرض وبدورانها على محورها، وضبطهم لحركة أوج الشمس وتداخل فلكها في أفلاك أخرى، وتحديدهم لمواقع كثير من النجوم، ورصدهم للكواكب السيارة والنجوم الثوابت وتعيينهم لمواقعها وأفلاكها في القبة الزرقاء ورسمهم لخرائط لها، وقياسهم لأجرام الشمس والقمر والنجوم بطريقة هندسية حسابية ومعرفتهم لمقاديرها بما يقرب من الحقيقة وقياسهم لأبعادها عن الأرض وسعة أفلاكها، وتطهيرهم لعلم الفلك من التنجيم وجعله علما رياضيا يقوم على الرصد والحساب، إلى غير ذلك من إنجازات وإسهامات علماء العرب والمسلمين في علم الفلك التي كان لها تأثيرها الواضح في النهضة الفلكية الأوروبية التي جاءت بعد ذلك وازدهرت في عهد كلبر وكوبرنيك وغيرها.
ويكفي دليلا على تأثير علماء الفلك العرب والمسلمين في الفكر الفلكي الأوروبي هو أن معظم أسماء النجوم والكواكب والمدارات بقيت في المعاجم الأوروبية حتى اليوم تحمل أسماء عربية، وذلك مثل العقرب، والجدي ، والطائر، والذنب، والفرقد، والثور، والراعي، وما إلى ذلك.
ولقد كانت مؤلفات العلماء العرب والمسلمين في الفلك هي المراجع الأساسية لطلاب العلم في أوروبا في العصور الوسطى وبداية عصر النهضة، بل والتنوير أيضا، وتأثروا بها في كتاباتهم ودراساتهم، لكن مما يؤسف له أن القليل من المهتمين بدراسة الحضارة الإسلامية، والمستشرقين قد اعترفوا بفضل أجدادنا على أعلام نهضتهم وعلى رواد علم الفلك في أوروبا.
وهكذا نجد أن العلماء المسلمين، قد سطروا صفحة مشرقة في علم الفلك مع توالي العصور، وما زالت تشهد بأن لهم أيادي بيضاء في ذلك المجال.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى