لكي تفهم التفسير يجب معرفة منهج المفسر – مثال للأندلسي

التفسير الكبير المسمى البحر المحيط
أثير الدين أبو عبد الله محمد بن يوسف الأندلسي

( وترتيبي في هذا الكتاب ) أني أبتدئ أولا بالكلام على مفردات الآية التي أفسرها لفظة لفظة فيما يحتاج إليه من اللغة والأحكام النحوية التي لتلك اللفظة قبل التركيب ، وإذا كان للكلمة معنيان أو معان ذكرت ذلك في أول موضع فيه تلك الكلمة لينظر ما يناسب لها من تلك المعاني في كل موضع تقع فيه فيحمل عليه . ثم أشرع في تفسير الآية ذاكرا سبب نزولها إذا كان لها سبب ، ومناسبتها ، وارتباطها بما قبلها ، حاشدا فيها القراءات شاذها ومستعملها ، ذاكرا توجيه ذلك في علم العربية ، ناقلا أقاويل السلف والخلف في فهم معانيها ، متكلما على جليها وخفيها ، بحيث إني لا أغادر منها كلمة وإن اشتهرت حتى أتكلم عليها مبديا ما فيها من غوامض الإعراب ودقائق الأداة من بديع وبيان ، مجتهدا أني لا أكرر الكلام في لفظ سبق ولا في جملة تقدم الكلام عليها ولا في آية فسرت ، بل أذكر في كثير منها الحوالة على الموضع الذي تكلم فيه على تلك اللفظة أو الجملة أو الآية ، وإن عرض تكرير فبمزيد فائدة ، ناقلا أقاويل الفقهاء الأربعة وغيرهم في الأحكام الشرعية مما فيه تعلق باللفظ القرآني محيلا على الدلائل التي في كتب الفقه ، وكذلك ما نذكره من القواعد النحوية أحيل في تقررها والاستدلال عليها على كتب النحو ، وربما أذكر الدليل إذا كان الحكم غريبا أو خلاف مشهور ما قال معظم الناس ، بادئا بمقتضى الدليل وما دل عليه ظاهر اللفظ ، مرجحا له لذلك ما لم يصد عن الظاهر ما يجب إخراجه به عنه ، منكبا في الإعراب عن الوجوه التي تنزه القرآن عنها ، مبينا أنها مما يجب أن يعدل عنه وأنه ينبغي أن يحمل على أحسن إعراب وأحسن تركيب ، إذ كلام الله – تعالى – أفصح [ ص: 5 ] الكلام فلا يجوز فيه جميع ما يجوزه النحاة في شعر الشماخ والطرماح وغيرهما من سلوك التقادير البعيدة والتراكيب القلقة والمجازات المعقدة . ثم أختتم الكلام في جملة من الآيات التي فسرتها إفرادا وتركيبا بما ذكروا فيها من علم البيان والبديع ملخصا ، ثم أتبع آخر الآيات بكلام منثور أشرح به مضمون تلك الآيات على ما أختاره من تلك المعاني ، ملخصا جملها في أحسن تلخيص ، وقد ينجر معها ذكر معان لم تتقدم في التفسير ، وصار ذلك أنموذجا لمن يريد أن يسلك ذلك فيما بقي من سائر القرآن ، وستقف على هذا المنهج الذي سلكته – إن شاء الله تعالى – وربما ألممت بشيء من كلام الصوفية مما فيه بعض مناسبة لمدلول اللفظ ، وتجنبت كثيرا من أقاويلهم ومعانيهم التي يحملونها الألفاظ ، وتركت أقوال الملحدين الباطنية المخرجين الألفاظ القريبة عن مدلولاتها في اللغة إلى هذيان افتروه على الله – تعالى – وعلى علي – كرم الله وجهه – وعلى ذريته ويسمونه علم التأويل ، وقد وقفت على تفسير لبعض رءوسهم وهو تفسير عجيب يذكر فيه أقاويل السلف مزدريا عليهم وذاكرا أنه ما جهل مقالاتهم ثم يفسر هو الآية على شيء لا يكاد يخطر في ذهن عاقل ، ويزعم أن ذلك هو المراد من هذه الآية ، وهذه الطائفة لا يلتفت إليها ، وقد رد أئمة المسلمين عليهم أقاويلهم ، وذلك مقرر في علم أصول الدين . نسأل الله السلامة في عقولنا وأدياننا وأبداننا . وكثيرا ما يشحن المفسرون تفاسيرهم من ذلك الإعراب بعلل النحو ودلائل أصول الفقه ودلائل أصول الدين ، وكل هذا مقرر في تآليف هذه العلوم ، وإنما يؤخذ لك مسلما في علم التفسير دون استدلال عليه ، وكذلك أيضا ذكروا ما لا يصح من أسباب نزول وأحاديث في الفضائل وحكايات لا تناسب وتواريخ إسرائيلية ، ولا ينبغي ذكر هذا في علم التفسير . ومن أحاط بمعرفة مدلول الكلمة وأحكامها قبل التركيب وعلم كيفية تركيبها في تلك اللغة وارتقى إلى تمييز حسن تركيبها وقبحه فلن يحتاج في فهم ما تركب من تلك الألفاظ إلى مفهم ولا معلم ، وإنما تفاوت الناس في إدراك هذا الذي ذكرناه ، فلذلك اختلفت أفهامهم وتباينت أقوالهم ، وقد جربنا الكلام يوما مع بعض من عاصرنا فكان يزعم أن علم التفسير مضطر إلى النقل في فهم معاني تراكيبه بالإسناد إلى مجاهد وطاوس وعكرمة وأضرابهم ، وأن فهم الآيات متوقف على ذلك . والعجب له أنه يرى أقوال هؤلاء كثيرة الاختلاف متباينة الأوصاف متعارضة ينقض بعضها بعضا ، ونظير ما ذكره هذا المعاصر أنه لو تعلم أحدنا مثلا لغة الترك إفرادا وتركيبا حتى صار يتكلم بتلك اللغة ويتصرف فيها نثرا ونظما ، ويعرض ما تعلمه على كلامهم فيجده مطابقا للغتهم قد شارك فيها فصحاءهم ، ثم جاءه كتاب بلسان الترك فيحجم عن تدبره وعن فهم ما تضمنه من المعاني حتى يسأل عن ذلك سنقر التركي أو سنجر ، ترى مثل هذا يعد من العقلاء ؟ وكان هذا المعاصر يزعم أن كل آية نقل فيها التفسير خلف عن سلف بالسند إلى أن وصل ذلك إلى الصحابة ، ومن كلامه أن الصحابة سألوا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عن تفسيرها هذا ، وهم العرب الفصحاء الذين نزل القرآن بلسانهم . وقد روي عن علي – كرم الله وجهه – وقد سئل : هل خصكم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بشيء ؟ فقال : ما عندنا غير ما في هذه الصحيفة أو فهم يؤتاه الرجل في كتابه . وقول هذا المعاصر يخالف قول علي – رضي الله عنه – وعلى قول هذا المعاصر يكون ما استخرجه الناس بعد التابعين من علوم التفسير ومعانيه ودقائقه وإظهار ما احتوى عليه من علم الفصاحة والبيان والإعجاز ، لا يكون تفسيرا حتى ينقل بالسند إلى مجاهد ونحوه ، وهذا كلام ساقط .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى