(كمان بالتقسيط).. بقلم الطاهر ساتي

السودان اليوم:

:: ما أشبه الليلة بالبارحة، أوهكذا كل قضايا السودان، بما فيها ذات الصلة بالقطط السمان.. وعلى سبيل المثال، فالحدث، كما ورد بعدد البارحة (آخر لحظة)، بالنص: “أمرت محكمة جرائم الفساد ومخالفات المال العام برئاسة القاضي ياسر بخيت بالإفراج عن موظف سابق بالصندوق القومي لرعاية الطلاب، مدين للصندوق بمبلغ ( 1,287,166 جنيه)، بناءً على تسوية تمت بين الطرفين تم سداد مبلغ (291.000 جنيه)، فيما التزم المدين بسداد بقية المبلغ على أقساط بواقع (20.000 جنيه، شهرياً)، ودفع المدين بمسؤول – بوزارة المالية بولاية سنار – ضامناً له أمام المحكمة لإحضاره لسداد المبلغ شهرياً”..!!
:: وعليه، (لا جديد).. إذ أن ارتكاب جرائم المال العام ثم الإفلات من العقاب بالتسويات – والتي منها دفع المبلغ بالتقسيط المريح – نهجٌ راسخٌ منذ عقود.. وهناك حدث – كهذا الحدث – لن يبارح ذاكرتي ما دمتُ حياً، وكان طرفه المدير الأسبق بجامعة الخرطوم البروفيسور الزبير بشير طه وبعض مراكز الفساد بالجامعة.. قبل عقدٍ ونيف، كتبتُ الحدث تحت عنوان (قصة البلاغ رقم 43/ 2004)، وهي موثقة بنيابة الأموال العامة، وكان يجب أن تأخذ العدالة مجراها الطبيعي في مسار ذاك البلاغ.. حيث أن أحدهم – أسماه الوالي بالمجاهد، لأن سيادته كان أميره بالجنوب – عاث فساداً في أموال جامعة الخرطوم، اختلاساً وتزويراً..!!
:: واعترف بكل هذا القبح للجنة التحقيق التي فتحت البلاغ – بالرقم أعلاه – في نيابة المال العام.. ولكن المجاهد كتب استرحاماً لأميره -البروف الزبير – مطالباً فيه تسوية الأمر بعيداً عن المحاكم، ثم خاتماً الاسترحام بالنص: “كنتُ مخلصاً لكم، وعملت بقلبٍ مفتوح، وإن أخطأتُ فارفع عني الضرر”.. وتأثر الأمير البروف بهذا الخطاب، وخاطب اللجنة موجهاً بالنص: “نوصي بقبول التسوية، وبإسقاط المبالغ المتعلقة بالسكن والأثاث والسكر ومواد البناء، ونوصي بمخاطبة النيابة بذلك، ونوصي بأن يدفع المذنب (40 ألف دينار) شهرياً خصماً من راتبه لحين سداد باقي المبلغ، وجزاكم الله خيراً”..!!
:: هكذا وأد أمير المجاهدين كل القضية، وما فيها من الاختلاس والتزوير.. وانتهت القضية، بحيث أمرت النيابة بإطلاق سراح من تعهد بدفع مبلغ الاختلاس بالتقسيط المريح (40.000 دينار، شهرياً)، وكانت العملة عامئذٍ ديناراً.. وبعد إطلاق السراح، احتفلوا بتنظيم ليلة مدائح نبوية بمنزل من أسموه بالمذنب، حيث هللوا وكبروا حتى منتصف الليل.. هذا ما حدث.. اعترف بالجريمة، ثم تقدم بطلب تسوية، فوافقوا، وأعادوه إلى عمله ليسدد المبلغ المُختلس (بالتقسيط المريح)، ففرح بهذا الأمر وخرج من الحراسة – زي الشعرة من العجين – ونَظَّم (ليلة مدائح)..!!
:: وما لم يكن قد تم تعديل القانون (سِرَّاً)، فإن جرائم المال العام يُعاقب عليها القانون الجنائي بالسجن أو بالسجن والغرامة أو بالإعدام، حسب تقدير المحكمة لحجم الجريمة.. فالنصوص العقابية التي يجب أن تطبقها أجهزة الدولة النيابية والعدلية – بالعدل والمساواة وبلا محاباة أو محسوبية – واضحة.. لم تشمل تلك النصوص عقاباً من شاكلة (التسوية) أو (الجودية)، بحيث ينفذ عبرها المدان من دائرة العدالة باسترجاع المبلغ العام، و(كمان بالتقسيط)، كما في الحدثين و(أكثر).. ليس عدلاً إذا كان الجاني ضعيفاً بلا ظهر (يسجنوه) وإذا كان ظهر الجاني مسؤولاً بوزارة مالية حكومة سنار (يقسّطوه)..!!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى