قصيدة الطلاسم للشاعر إيليا أبو ماضي

جئت، لا أعلم من أين، ولكنّي أتيت
ولقد أبصرت قدّامي طريقا فمشيت
وسأبقى ماشيا إن شئت ذلك أم أبيت
كيف جئت؟ كيف أبصرت طريقي؟
لست أدري!

أجديد أم قديم أنا في ذلك الوجود
هل أنا حرّ طليق أم أسير في قيود
هل أنا زعيم نفسي في حياتي أم مقود
أتمنّى أنّني أدري ولكن…
لست أدري!

وطريقي، ما طريقي؟ أطويل أم قصير؟
هل أنا أصعد أم أهبط فيه وأغور
أأنا السّائر في الدّرب أم الدّرب سلس
أم كلاّنا واقف والدّهر يجري؟
لست أدري!

ليت شعري وأنا عالم الغيب الأمين
أتراني كنت أدري أنّني فيه دفين
وبأنّي سوف أبدو وبأنّي سأكون
أم تراني كنت لا وعى شيئا؟
لست أدري!

أتراني قبلما أصبحت إنسانا سويّا
أتراني كنت محوا أم تراني كنت شيّا
ألهذا اللّغو حلّ أم سيبقى أبديّا
لست أدري… ولماذا لست أدري؟
لست أدري!

البحر

قد سألت البحر يوما هل أنا يا بحر منكا؟
هل صحيح ما رواه بعضهم عني وعنكا؟
أم تشاهد ما زعموا زوار وبهتانا وإفكا؟
ضحكت أمواجه مني وقالت:
لست أدري!

أيّها البحر، أتدري كم مضت ألف عليكا
وهل الشّاطىء يدري أنّه جاث لديكا
وهل المجاري المائية تدري أنّها منك إليكا
ما الذّي الأمواج صرحت حين ثارت؟
لست أدري!

أنت يا بحر أسير آه ما أعظم أسرك
أنت مثلي أيّها الجبار ليس لديها أمرك
أشبهت حالك جاري وحكى عذري عذرك
فمتى أنجو من الأسر وتنجو؟ ..
لست أدري!

ترسل السّحب فتسقي أرضنا والشّجرا
قد أكلناك وقلنا قد أكلنا الثّمرا
وشربناك وقلنا قد شربنا المطرا
أصواب ما زعمنا أم ضلال؟
لست أدري!

قد سألت السّحب في الآفاق هل تذكر رملك
وسألت الشّجر المورق هل يعلم فضلك
وسألت الدّر في الأعناق هل تذكر أصلك
وكأنّي خلتها تحدثت جميعا:
لست أدري!

برفض الموج وفي قاعك حرب لن تزولا
تخلق الأسماك إلا أن تخلق الحوت الأكولا
قد جمعت الوفاة في صدرك والعيش الجميلا
ليت شعري أنت مهد أم قبر؟..
لست أدري!

كم بنت مثل ليلى وفتى كأبن الملوح
أنفقا السّاعات في الشّاطىء ، تشكو وهو يشرح
كلّما حاجزّث أصغت وإذا صرحت ترنّح
أخفيف الموج سرّ ضيّعاه؟..
لست أدري!

كم ملوك ضربوا حولك في اللّيل القبابا
طلع الصّبح ولكن لم نجد سوىّ الضّبابا
ألهم يا بحر يوما رجعة أم لا مآبا
أم هم في الرّمل ؟ صرح الرّمل إني…
لست أدري!

فيك مثلي أيّها الجبّار أصداف ورمل
إنّما أنت بدون استمرّ ولي في الأرض استمرّ
إنّما أنت من دون ذهن ولي ،يا بحر ، ذهن
فلماذا ، يا تشاهد، أمضي وتظل ؟..
لست أدري!

يا كتاب الدّهر قل لي أله قبل وبعد
أنا كالزّورق فيه وهو بحر لا يجدّ
ليس لي غرض فهلل للدهر في سيري غاية
حبّذا العلم، ولكن كيف أدري؟..
لست أدري!

إنّ في صدري، يا بحر ، لأسرار عجابا
نزل السّتر عليها وأنا كنت الحجابا
ولهذا أزداد بعدا كلّما أزددت اقترابا
وأراني كلّما أوشكت أدري…
لست أدري!

إنّني ،يا بحر، بحر شاطئاه شاطئاكا
الغد المجهول والأمس اللّذان اكتنفاكا
وكلانا قطرة ، يا بحر، في ذلك وذاك
لا تسلني ما غد، ما البارحة؟.. إني…
لست أدري!

الدير

قيل لي في الدّير أناس أدركوا سرّ الحياة
غير أنّي لم أجد غير أذهان آسنات
وقلوب بليت فيها المنى فهي رفات
ما أنا أعمى فهل غيري أعمى؟..
لست أدري!

قيل أدرى النّاس بالأسرار سكّان الصوامع
قلت إن صحّ الذي صرحوا فإن السرّ منتشر
عجبا كيف تشاهد الشّمس عيون في البراقع
والتي لم تتبرقع لا تراها؟..
لست أدري!

إن تك العزلة نسكا وتقى فالذّئب راهب
وعرين اللّيث دير حبّه فرض وواجب
ليت شعري أيميت النّسك أم يحيي الموهوبين
كيف يمحو النّسك إثما وهو إثم؟..
لست أدري!

أنني أبصرت فيّ الدّير ورودا في سياج
قنعت عقب النّدى الطّاهر بالماء الأجاج
حولها النّور الذي يحي ، وترضى بالديّاجي
أمن الحكمة قتل الفؤاد صبرا؟..

لست أدري!

قد دخلت الدّير نحو الصباح كالفجر الطّروب
وتركت الدّير نحو اللّيل كاللّيل الغضوب
كان في نفسي كرب، صار في نفسي كروب
أمن الدّير أم اللّيل اكتئابي؟
لست أدري!

قد دخلت الدّير استنطق فيه الناسكينا
فإذا الأناس من الحيرة مثلي باهتونا
غلب اليأس عليهم ، إستيعاب مستسلمونا
وإذا بالباب مكتوب عليه…
لست أدري!

عجبا للنّاسك القانت وهو اللّوذعي
هجر النّاس وفيهم كلّ حسن المبدع
وغدا يبحث عنه الموضع البلقع
أرأى في القفر ماء أم سرابا؟..
لست أدري!

كم تمارى ، أيّها النّاسك، في الحق الصّريح
لو أراد اللّه أن لا تعشق الشّيء المليح
كان إذ سوّاك من دون ذهن وروح
فالّذي تفعل إثم … أفاد إني …
لست أدري!

أيّها الطريد إنّ العار في ذلك الهروب
لا صلاح في الّذي تفعل إلى أن للقفار
أنت جان أيّ جان ، قاتل في غير ثار
أفيرضى اللّه عن ذلك ويعفو ؟..
لست أدري!

بين الأضرحة

ولقد قلت لنفسي، وأنا بين الأضرحة
هل شاهدت الأمن والرّاحة سوىّ في الحفائر؟
فأشارت : فإذا للدّود عيث في المحاجر
ثم أفادت :أيّها السّائل إني…
لست أدري!

أنظري كيف تساوى الكلّ في ذلك الموضع
وتلاشى في بقايا العبد ربّ الصّولجان
والتقى العاشق والقالي فما يفترقان
أفبذا منتهى الإنصاف؟ فقالت …
لست أدري!

إنّ يك الوفاة قصاصا، أيّ ذنب للطّهاره
وإذا كان ثوابا، أيّ فضل للدعاره
وإذا كان يوما وما فيه عقوبة أو جساره
فلم الأسماء إثم أو صلاح؟..
لست أدري!

أيّها الضريح تكلّم، واخبرني يا رمام
هل طوى أحلامك الوفاة وهل وافته المنية الغرام
من هو المائت من عام ومن مليون عام
أبصير الوقت في الأرماس محوا؟..
لست أدري!

إن يك الوفاة رقادا بعده صحو طويل
فلماذا ليس يوجد صحونا ذلك الجميل؟
ولماذا المرء لا يدري متى وقت الرّحيل؟
ومتى ينكشف السّرّ فيدري؟..
لست أدري!

إن يك الوفاة هجوعا يملأ النّفس سلاما
وانعتاقا لا اعتقالا وابتداء لا ختاما
فلماذا أعشق النّوم ولا أهوى الحماما
ولماذا تجزع الأرواح منه؟..
لست أدري!

أوراء الضريح في أعقاب الوفاة أرسل ونشور
فحياة فخلود أم فتاء ودثور
أكلام النّاس صدق أم خطاب الناس زور
أصحيح أنّ بعض الناس يدري؟..
لست أدري!

إن أكن أبعث عقب الوفاة جثمانا وعقلا
أترى أبعث بعضا أم تشاهد أبعث كلاّ
أترى أبعث طفلا أم تشاهد أبعث كهلا
ثمّ هل أعرف عقب الوفاة ذاتي؟..
لست أدري!

يا صديقي، لا تعللّني بتمزيق السّتور
بعد أن أقضي فعقلي لا يبالي بالقشور
إن أكن في وضعية الوعي لا أدري مصيري
كيف أدري بعد أن أفقد رشدي…
لست أدري!

القصر والكوخ

ولقد أبصرت قصرا شاهقا عالي القباب
قلت ما شادك من شادك سوىّ للخراب
أنت جزء منه إلا أن لست تدري كيف غاب
وهو لا يعرف ما تشتمل؛ أيدري؟..
لست أدري!

يا مثالا كان وهما قبلما شاء البناة
أنت بال من دماغ غيّبته الظلمات
أنت أمنية قلب أكلته الحشرات
أنت بانيك الّذي شادك لا … لا…
لست أدري!

كم قصور خالها الباني ستبقى وتدوم
ثابتات كالرّواسي خالدات كالنّجوم
سحب الدّهر عليها ذيله فهي ضرائب
مالنا نبني وما نبني لهدم؟..
لست أدري!

لم أجد في القصر شيئا ليس في الكوخ المهين
أنا في ذلك وذلك عبد شك ويقين
وسجين الخالدين اللّيل والصّبح الموضح
هل أنا في القصر أم في الكوخ أرقى؟
لست أدري!

ليس في الكوخ ولا في القصر من نفسي مهرب
أنّني أرجو وأخشى، إنّني أرضى وأغضب
كان ثوبي من حرير مذهب أو كان قنّب
فلماذا يتمنّى الثوب عاري؟..
لست أدري!

سائل الغداة: أعند الغداة طين ورخام؟
واسأل القصر ألا يخفيه، كالكوخ، الظّلام
واسأل الأنجم والرّيح وسل باتجاه الغمام
أترى الشّيء كما نحن نشاهده؟..
لست أدري!

الفكر

ربّ بال لاح في لوحة نفسي وتجلّى
خلته منّي ولكن لم يقم إلى أن تولّى
مثل طيف لاح في بئر طفيفا واضمحّلا
كيف وافى ولماذا هربّ منّي؟
لست أدري!

أتراه سابحا في الأرض من نفس لأخرى
رابه مني أمر فأبى أن يستقرّا
أم تشاهده سرّ في نفسي كما أعبر جسرا
هل رأته قبل نفسي غير نفسي؟
لست أدري!

أم تشاهده بارقا حينا وتوارى
أم تشاهده كان مثل الطير في سجن فطارا
أم تشاهده انحلّ كالموجة في نفسي وغارا
فأنا أبحث عنه وهو فيها،
لست أدري!

صراع وعراك

إنّني أشهد في نفسي صراعا وعراكا
وأرى ذاتي شيطانا وأحيانا ملاكا
هل أنا شخصان يأبى ذلك مع ذاك اشتراكا
أم تراني واهما فيما أراه؟
لست أدري!

في حين قلبي يحكي في الضّحى واحدة من الخمائل
فيه أزهار وأطيار تغني وجداول
أقبل العصر فأسى موحشا كالقفر قاحل
كيف صار الفؤاد روضا ثمّ قفرا؟
لست أدري!

أين ضحكي وبكائي وأنا طفل ضئيل
أين جهلي ومراحي وأنا غضّ غرير
أين أحلامي وقد كانت كيفما سرت تمشي
كلّها ضاعت ولكن كيف ضاعت؟
لست أدري!

لي إيمان ولكن لا كأيماني ونسكي
إنّني أبكي ولكن لا كما قد كنت أبكي
وأنا أضحك في بعض الأحيان ولكن أيّ ضحك
ليت شعري ما الذي بدّل أمري؟
لست أدري!

كلّ يوم لي شأن ، كلّ حين لي إحساس
هل أنا اليوم أنا منذ ليال وشهور
أم أنا نحو غروب الشمس غيري في البكور
كلّما ساءلت نفسي جاوبتني:
لست أدري!

ربّ أمر كنت لّما كان عندي أتّقيه
بتّ لّما غاب عنّي وتوارى أشتهيه
ما الّذي حبّبه عندي وما بغّضنيه
أأنا الشّخص الّذي أعرض عنه؟
لست أدري!

ربّ فرد عشت معه زمناألهو وأمرح
أو مقر مرّ دهر لي مسرى ومسرح
لاح لي في البعد أجلى منه في القرب وذكر
كيف يوجد رسم شيء قد توارى؟
لست أدري!

ربّ بستان قضيت السن أحمي شجره
ومنعت النّاس أن تقطف منه زهره
أتت الأطيار في الغداة فناشت ثمره
ألأطيار السّما البستان أم لي؟
لست أدري!

رب قبح نحو زيد هو حسن نحو بكر
فهما مقابلّان فيه وهو وهم نحو عمرو
فمن الصّادق فيما يدّعيه ، ليت شعري
ولماذا ليس للحسن قياس؟
لست أدري!

قد شاهدت الحسن ينسى مثلما تنسى الخلل والنقائص
وطلوع الشّمس يرجى مثلما يرجى الغروب
ورأيت الشّر مثل الخير يمضي ويؤوب
فلماذا أحسب الشرّ دخيلا؟
لست أدري!

إنّ ذلك الغيث يهمي حين يهمي مكرها
وزهور الأرض تفشي مجبرات عطرها
لا تطيق الأرض تخفي شوكها أو زهرها
لا تسل : أيّهما أشهى وأبهى؟
لست أدري!

قد يصير الشوك إكليلا لملك أو نبّي
ويصير الورد في عروة لص أو ظلمّ
أيغار الشّوك في الحقل من الزّهر الجنّي
أم تشاهد يحسبه أحقر منه؟
لست أدري!

قد يقيني الخطر الشّوك الذي يجرح كفّي
ويكون السّمّ في العطر الّذي يملأ أنفي
إنّما الورد هو الأجود في شرعي وعرفي
وهو شرع كلّه بغي ولكن …
لست أدري!

قد شاهدت الشّهب لا تدري لماذا تشرق
ورأيت السّحب لا تدري لماذا تغدق
ورأيت الغاب لا تدري لماذا تورق
فلماذا كلّها في الجهل مثلي ؟
لست أدري!

كلّما أيقنت أني قد أمطت السّتر عني
ووصلت السّر سرّي ضحكت نفسي مني
قد وجدت اليأس والحيرة إلا أن لم أجدني
فهل الجهل نعيم أم جحيم؟
لست أدري!

لذة عندي أن أسمع تغريد البلابل
وحفيف الورق الأخضر أو همس الجداول
وأرى الأنجم في الظلّماء تظهر كالمشاعل
أترى منها أم اللّذة منّي…
لست أدري!

أتراني كنت يوما نغما في وتر
أم تراني كنت قبلا موجة في مجرى مائي
أم تراني كنت في واحدة من النّجوم الزّهر
أم أريجا ، أم حفيفا ، أم نسما؟
لست أدري!

فيّ مثل البحر أصداف ورمل ولآل
في كالأرض مروج وسفوح وجبال
فيّ كالجو نجوم وغيوم وظلال
هل أنا بحر وأرض وسماء؟
لست أدري!

من شرابي الشّهد والخمرة والماء الزّلال
من طعامي البقل والأثمارواللّحم الحلال
كم كيان قد تلاشى في كياني واستحال
كم كيان فيه شيء من كياني؟
لست أدري!

أأنا أعلن من عصفورة الوادي وأعذب؟
ومن الزّهرة أشهى ؟ وشذى الزّهرة أطيب؟
ومن الحيّة أدهى ؟ ومن النّملة أغرب؟
أم أنا أوضع من هذي وأدنى؟
لست أدري!

كلّها مثلي تحيا، كلّها مثلي تموت
ولها مثلي شراب ، ولها مثلي قوت
وانتباه ورقاد، وجديد وسكوت
فيما أمتاز عنها ليت شعري؟
لست أدري!

قد شاهدت النّمل يعمل على مثلما أسعى لرزقي
وله في العيش أوطار وحق مثل حقي
قد تساوى صمته في نظر الدّهر ونطقي
فكلانا صائر يوما إلى ما …
لست أدري!

أنا كالصّهباء ، إلا أن أنا صهباي ودّني
أصلها خاف كأصلي ، سجنها طين كسجني
ويزاح الختم عنها مثلما ينشّق عني
وهي لا تفقه معناها، وإني…
لست أدري!

غلط القائل إنّ الخمر فتاة الخابيه
فهي قبل الزق كانت في أوردة الدّاليه
وحواها قبل رحن الكرم رحم الغاديه
إنّما من قبل ذلك أين كانت؟
لست أدري!

هي في رأي بال ، وهي في عينّي نور
وهي في صدري آمال ، وفي قلبي إحساس
وهي في جسمي دم يسري فيه ويمور
إنّما من قبل ذلك كيف كانت؟
لست أدري!

أنا لا أذكر شيئا من حياتي الفائتة
أنا لا أعرف شيئا من حياتي الآتيه
لي ذات غير أني لست لأدري ماهيه
فمتى تعرف ذاتي كنه ذاتي؟
لست أدري!

إنّني جئت وأمضي وأنا لا أعلم
أنا لغز … وذهابي كمجيتي طلسم
والّذي أوجد ذلك اللّغز لغز أعظم
لا تجادل ذا الحجا من أفاد إنّي …
لست أدري!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى