غادة السمان : الأبدية لحظة صدق

غادة السمان : الأبدية لحظة صدق

– أيتها المرأة الحزينة،

ما الذي تفعلينه منتصف ليل السنة الحديثة؟

– أحمل المثقاب الكهربائي، واغرسه في الجدار،

أصنع ثقباً صغيراً لتعليق خارطة وطني على مسمار،

وبعدها أغرس المثقاب في ظلام الليل الصلد

حتى أثقبه ، فقد ألمح ضوءاً في الناحية الأخرى…

– أيتها المرأة الحزينة، أما زلتِ تحبينني؟

– ذلك السن كله لا يكفيني لأقول كم أحبك …

إنه أقصر من أن يتسع للرحلة معك

وأطول من أن نقضيه في الفراق…

– أيتها المرأة الحزينة، لماذا إذن هجرتني؟

– لأنك ما دام اعتبرت تقديسي للحرية

مرضاً بحاجة إلى دواء…

ولأنك وضعت لنفسك هدفاً ثابتاً:

إن تبدّلني كي تحبني…

كنتَ تحب امرأة أخرى وهمية، وتحاول حشري في قالبها،

ماسحاً ملامحي النفسية بممحاة حبي لك…

***-

– أيتها المرأة الحزينة، أراضية أنت هذه اللحظة بحريتك؟

– من الذي سجن روحي في ذلك الجسم المهترئ؟

لو استطعت أن أختار جسداً،

لاخترت جسم الأمواج الحرة،

التي تهرول كما يحلو لها في بيّن الليل،

على رمل قارات الأسرار وتنحت مغاورها معلنة حقيقتها…

– أيتها المرأة الحزينة ، ألا هاجس لكِ غير الحرية؟

– وكل شيء يسعى سجني!…

حتى السطور على ورقتي البيضاء

التي أخط عليها هذه اللحظة تلك المفردات،

تظهر لي كقضبان السجن…

لذلك أحب الكتابة،

بين السطور وخلف الورقة على الريح…

– أيتها المرأة الحزينة، هل تعرفين نفسك؟

– أحدق في المرآة ، وأرى صورتي غريبة عني،

فأسألها: من أنتِ أيتها البومة؟

من هو ليلك؟ أي الهواء رياحك؟

أي الأوطان وطنك؟

لا تجيب…

لكنها تفتح باب المرآة، ولا تقول شيئا…

وتطير بعيداً…

***-

– أيتها المرأة الحزينة، ما الذي تبقّى من حبنا!

– لم يبق من الدورة الدموية لحبنا،

غير الحبر في قلمي…

وها أنا أعيد بلوَرة حرائقنا، وأمزجتنا الموسمية،

وأبني قصور الأبجدية من رمادنا…

– دعينا نسعى مكررا…

– أعذرني.. ليس لي صبر الأمواج

لأقرع باب شطآنك دهوراً من الذل…

لي حرية الأمواج وفضولها…

وكالعصفور أمضي وراء الغصن المستحيل،

المرتسم داخل بحيرات التعجب…

وكالعصفور، لا أحطّ على شرفتك سوى لأطير…

***-

– أيتها المرأة الحزينة سعيدة أنت في باريس؟

– جيوب الغربة،

مليئة بالسكاكر الشهية والبالونات الملونة،

والمناديل الحريرية، والأرانب البيض،

ولكنها لا تصلح إرتشاء لمشردة مشاكسة مثلي،

محصّنة بشوقها إلى الوطن،

رافضة لقارئة الكف ونقر الدف…

– وبيروت؟

– حين أكتب عنها يصير الفضاء لحظة تنّهد…

بيروت؟ آه كيف يسير البكاء في الشوارع…

والحزن مكواة تركض فوق السمات،

وتمسح عنها التعابير الآدمية، كالابتسامة

والشوق واللهفة والحلم،

وتظهر وجوهنا جميعاً،

مثل فانلة أبيض خاو في مصح عقلي،

خرج للتو من القاعة المطاطية للقمع

بعد أن استجوبه الجنون طويلاً…

في ليالي الانتحاب الأخرس.

***-

– أيتها المرأة الحزينة، كيف ترين ما كان بيننا؟

– أحاول أن أتذكر التفاصيل، وأفشل،

قأقوم بابتكار ماض جميل لنا خارج تناقضاتنا…

كيف أطيق أيامي بدونك وأخطو في نفق غدي

إن لم أخترع لنا زمناً يليق بأسطورتنا؟

وهنالك لحظات أشاهد فيها ما كان حقاً

في ومضة صدق مختزلة… فيدمع قلبي.

– وماذا ترين؟

– التقينا. حملتني. سوّرت واحد من حقولك وزرعتني فيه

فزّاعة طيور تحت الثلج، ونسيتني شتاءات طويلة،

ثم سألتني ليلة رأس السنة: لماذا أنت شاحبة هكذا؟!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى