عن مال الدعم، نحكي: (من دقنو وفتلو) .. بقلم: بروفيسور حسن بشير محمد نور

السودان اليوم
السادة في مجلس الوزراء ووزارة المالية المعنين بالموازنة العامة تحدثوا كثيرا عن العبء الكبير الذي يقع علي الموازنة جراء الدعم، وبالتحديد الموجه لدقيق القمح والجازولين. طلب عدد من اولئك المسؤولين من المهتمين ومن من عموم الشعب السوداني المساعدة في ايجاد حل لتلك المشكلة التي تسببت حسب قولهم في تشوهات كبيرة في الاقتصاد واخلت بمبدأ الكفاءة.

بحكم اني واحدا من ابناء الشعب الذي يشاركه المعاناة اليومية ويكتوي بالنيران التي يصطلي بها في مكابدة قسوة العيش اريد ان ابدي رأي وملاحظات حول هذا الموضوع.
اولا: هذا الدعم ياتي من مال الشعب يعني (من دقنو وفتلو). فالحكومة لم نراها عاملة كادحة تجني الاموال من عرق جبينها وتحولها الي الدعم، ولا هي مستثمرة تحقق الارباح وتقوم بدعم قوت الشعب وواحد من عناصر الانتاج المهمة المتمثل في الجازولين من تلك الارباح. يعني ان هذا الدعم يجب ان لا يصور كنة من احد علي الذين يستفيدون منه. ثم ان هذا الدعم مهم جدا سواء ان كان بسبب ارتفاع تكليف المعيشة وقلة الدخول وتآكلها بسبب التضخم، او من ناحية اهمية الجازولين للانتاج ومن ضمن ذلك انتاج مواد الامن الغذائي لغالبية الشعب السوداني.
الحكومة تجمع الضرائب، وتشكل الضرائب غير المباشرة 70% من جملة الايرادات الضريبية وهي ضرائب تؤثر بشكل سلبي علي مستويات الاسعار وتضر بالعدالة نسبة لتراجعيتها وعبئها الكبير علي اصحاب الدخول المنخفضة، خاصة وان الضرائب غير المباشرة في السودان، وعلي خلاف معظم دول العالم تستهدف السلع والخدمات الاساسية، بل حتي الخدمات التي تعتبر من الحقوق الاقتصادية مثل خدمات الصحة والتعليم ناهيك عن رسوم الماء والكهرباء.
ثانيا: الدعم موجود في جميع دول العالم عبر حزم الوظيفة التوزيعية للسياسة الاقتصادية العامة وليس اختراعا سودانيا فريدا من نوعه. يتم ذلك عبر ادوات التوزيع سواء ان كان بشكل مباشر او عبر المدفوعات التحويلية مثل الضمان الاجتماعي، التامين الاجتماعي، التأمين الطبي، دعم البطالة والعجزة وكبار السن الخ. ليس ذلك فحسب بل وحتي طالبي اللجؤ او المهاجرين غير الشرعين الذين تقزف بهم المراكب والقوارب يوميا الي اوربا وغيرها يتلقون الدعم، حتي الكثير من الاشخاص ومنهم سودانيين من اكتسبوا جنسيات دولا في مختلف انحاء العالم يعيشون علي الدعم الاجتماعي الذي يسمي اختصارا ( سوشال Social )، ولم نسمع بدولة اشتكت من ذلك عند اجازة موازنتها العامة، اللهم الا تناول ذلك الموضوع عبر مجمل السياسات الاقتصادية او تلك المتعلقة بالهجرة.
من المعروف ان تلك السياسة تتم عبر ما يسمي بمخطط ضريبة اعانة بفرض ضرائب تصاعدية علي اصحاب الدخول المرتفعة وتحويلها لدعم اصحاب الدخول المنخفضة عبر المدفوعات التحويلية كما ذكرت، او عبر الاسكان الشعبي او الدعم السلعي كدعم بعض الادوية او اغذية الاطفال او حتي الانفاق علي افراد المجتمع والقطاع الخاص كما هو متبع في دعم المزارعين في اوربا وامريكا وغيرها من الدول. كما تفرض ضرائب غير مباشرة علي السلع غير الضرورية او الضارة اة الملوثة للبيئة وتستخدم عائداتها لمثل تلك الاغراض.
ثالثا: التشوهات اذن ليست بسبب الدعم والا لكانت معظم الاقتصاديات العالمية مشوهة. التشوهات بسبب الخلل الهيكلي في الاقتصاد السوداني، في ضعف قاعدة الانتاج، ضعف الانتاجية، ضعف القدرة التنافسية للقطاع الخاص ولتدهور البنية التحتية او انعدامها ولتخلف الخدمات الاجتماعية ومعظم الخدمات الاقتصادية. عند معالجة تلك المشاكل تختفي معها التشوهات.
رابعا: تضخم مبالغ الدعم ناتج عن ارتفاع معدلات التضخم والتدهور المستمر لسعر الصرف. جزء مهم من المسؤولين الحكوميين يؤمنون بان المشكلة في سعر الصرف وهذا خطأ كبير. صحيح ان تدهور سعر الصرف يؤدي الي ارتفاع تكاليف الانتاج ويتسبب في تشويه مؤشرات القوة الشرائية، مؤشر الادخار ومؤشر النمو، الا ان تدهور سعر الصرف ورغم جميع الاثار الناتجة عنه لا يعدو الا ان يكون عرضا للعلة التي يعاني منها هيكل الاقتصاد السوداني ومجمل النشاط الاقتصادي في السودان، وبسبب السياسات الاقتصادية الخاطئة وسوء ادارة الموارد وتفشي الفساد.
من اسباب تدهور سعر الصرف ايضا اسباب سياسية ذات علاقة بالعقوبات المفروضة علي السودان التي تمنعه من الوصول الي الاسواق ومصادر التمويل الاجنبي ومؤسسات التمويل الدولية، وتعوق اعفاء الديون والاستفادة من المبادرات الدولية مثل الدول النامية المثقلة بالديون (HIPCs). وتضر بمناخ الاستثمار، بل تصل اثارها الي تحويلات المغتربين، التي فاقم من مشكلتها تدهور التقة في الجهاز المصرفي. اذن مشكلة سعر الصرف نتيجة لجميع تلك الاسباب مجتمعة ولا يمكنه ان تكون سببا لها. اكبر دليل علي صحة تلك الفرضية ان سعر الصرف ظل مستقرا طوال حقبة البترول ولم تكن هناك مشكلة تسمي سعر الصرف، كما ان الدعم في ذلك الوقت لم يحدث (تشوهات) في الاقتصاد رغم ان دعم المواد البترولية كان دعما محاسبيا وليس اقتصاديا.
اذن المشكلة اضافة لتعقيداتها السياسية والتنظيمية فهي مشكلة هيكلية ومشكلة في المنهج الاقتصادي المتبع لوصفات مؤسسات بريتون وودز حذوك الحافر بالحافر.

mnhassanb8@gmail.com

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى