خطبة عالمية الإسلام , لفضيلة الشيخ محمد حسان

أحبتي في الله

أى يوم هذا الذى نحياه الآن ، أى يوم هذا الذى نعيشه الآن ، إنه يومٌ عظيمٌ كريمٌ على الله جل وعلا ، إنه يوم عرفة فى يوم جمعة إنه يوم عرفات فى يوم الجمعة ، وفى الصحيحين(1) عن ابن عمر رضى الله عنهما أن رجلاً من اليهود جاء عمر وقال : يا أمير المؤمنين آيه فى كتابكم لو نزلت علينا معشر اليهود لاتخذنا اليوم عيداً فقال عمر بن الخطاب : أى آية ؟ فقال اليهودى : قوله تعالى : ….. الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً …. [المائدة : 3]

فقال عمر بن الخطاب : والله إنى لأعرف أى يوم نزلت فيه ، والمكان الذى نزلت فيه ، فلقد نزلت هذه الآية على رسول الله وهو واقف بعرفه فى يوم الجمعة.

ففى مثل هذا اليوم أيها الأحباب وقف الحبيب المصطفى فى وادى عرفات فى يوم جمعة ونزل عليه قول رب الأرض والسموات الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإسْلامَ دِيناً فإن دين الإسلام دين أهل السماء .. ودين أهل الأرض .. ودين الجن المؤمن .. ودين جميع الأنبياء ودين جميع المرسلين : وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [ الانبياء : 25 ]

بل إن الإسلام دين النصارى الذى آمنوا بعيسى – على نبينا وعليه الصلاة والسلام – قل جلا وعلا فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ [ آل عمران : 52 ]

فإننا اليوم أيها الأحباب فى يوم عرفة وفى يوم جمعة .. إنه فضل الله جل وعلا يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم .. ففى هذا اليوم تتجلى عالمية الإسلام فى عرفات .. هذا أحمر .. وهذا ابيض .. وهذا اسود والكل يقف الآن على عرفات وقد رفعوا أكف الضراعة إلى رب الأرض والسموات ، هذا يخاطب الله بالعربية .. وذاك يخاطب الله بالباكستانية .. وذاك يخاطب الله بالانكليزية .. وذلك يخاطب الله بالفرنسية .. وسبحان من لا تختلف عليه اللغات ولا تختلف عليه الأصوات.

يسمع كل أحد .. ويجيب كل أحد .. ويعرف ما يقوله كل أحد (( … يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ ، وَآخِرَكُمْ ، وَإِنْسَكُمْ ، وَجِنَّكُمْ ، قَامُوا فِي ‏ ‏صَعِيدٍ ‏ ‏وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ ))(1)

سبحان الله الذى لا تختلف عليه اللغات .. ولا تشتبه عليه الأصوات.

يقف الجميع الآن لتظهر عالمية الإسلام فى عرفات ، لكن الذى يدمى القلب ويؤلم النفس أن يجتمع المسلمون من كل فج عميق ومن كل حدب وصوب فى هذا التجمع العالمى الكبير ، ثم ينفضون ولا حَرَّكوا ساكناً ، ولا غيروا واقعاً وما وجهوا دفة .. ولا حول ولا قوة إلا بالله !!.

هذه دماء المسلمين تنْزف بغزارة فى كل مكان ، وهاهى برك الدماء وأكوام الأشلاء تجسد الفجيعة وتحكى المأساة فى ألف مليون مسلم

وَأَيْنَ هُمُوا إِذَا وَعَتْ الجِرَاحُ

مَا ثَمّ مُعْتَصم يُغِيثُ مَنْ استَغَاثَ بِهِ وَصَاحَ
يأتى هذا الجمع من كل فج عميق وسرعان ما ينفض وما أثّر فى شئ وما غير شيئاً .. وما حرك ساكناً .. وما اهتم العالم كله بهذا التجمع !!! لأنهم يعلمون أن المسلمين الآن غثاء كغثاء السيل كما قال الصادق المصدوق : ((‏‏‏يُوشِكُ الْأُمَمُ أَنْ ‏ ‏تَدَاعَى ‏ ‏عَلَيْكُمْ كَمَا ‏ تَتَدَاعَى ‏ ‏الْأَكَلَةُ ‏ ‏إِلَى ‏ ‏قَصْعَتِهَا)) قالوا: أو من قلة نحن يومئذ يا رسول الله ؟!. قال : ((بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ وَلَكِنَّكُمْ ‏ ‏غُثَاءٌ ‏ ‏كَغُثَاءِ ‏ ‏السَّيْلِ وَلَيَنْزَعَنَّ اللَّهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمْ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ وَلَيَقْذِفَنَّ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ الْوَهْنَ)) قيل : وما الوهن يا رسول الله ؟ . قال : ((حُبُّ الدُّنْيَا وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ))(1)

ولكنه يومُ تتجلى فيه رحمة الحق جل وعلا على عباده الضعفاء ، فإنه سبحانه الذى خلقنا .. وإنه يعلم ضعفنا .. ويعلم فقرنا .. ويعلم عجزنا .. ويعلم تقصيرنا فيتجلى برحمته -جل وعلا – على حجاج بيته الحرام ، الذين تركوا الديار والأهل والأموال والأوطان وراحوا ليقفوا اليوم على عرفات وقد سُكبت منهم العبرات .. وضجّت منهم الأصوات .. وارتفعت لهم الدعوات .. ليتجلى عليهم رب الأرض والسموات ويباهى بهم ملائكته.

ففى مسند الأمام أحمد أن رسول الله قال : (( إِنَّ الله تَعَالى يُيَاهِى بِأَهْلِ عَرَفَات أَهَلَ السَّمَاء فَيَقُولُ لَهُمْ : جَاؤُونِى شُعْثاً غُبْراً))(2). وفى رواية (( منْ كُلَّ فَجِ عَمِيق يَرْجُونَ رَحْمتِى وَيَخَافُونَ عَذَابِى ، فَوَعِزَّتِى وَجَلالِى أُشْهِدكُمْ بِأَنَّى قَدْ غَفَرتُ لَهُ )) ، الحديث حسن ، بل ومن علمائنا من قال عنه حديث صحيح متصل الإسناد (( أُشْهِدكُمْ بِأَنَّى قَدْ غَفَرتُ لَهُمْ )).

إنه يوم الرحمات أيها الأحباب ، ولذا ورد فى صحيح مسلم من حديث عائشة -رضى الله عنها – أنه قال : ((‏مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللَّهُ فِيهِ عَبْدًا مِنْ النَّارِ مِنْ يَوْمِ ‏، ‏عَرَفَةَ ،‏ ‏وَإِنَّهُ ‏لَيَدْنُو ثُمَّ ‏ ‏يُبَاهِي بِهِمْ الْمَلَائِكَةَ فَيَقُولُ : مَا أَرَادَ هَؤُلَاءِ)) (3).

إنه فضل الله جل وعلا ، ولذا أرى أيها الأحباب أنه فى الجفاء إلا نصحب اليوم حجاج بيت الله الحرام بأنفسنا ، إن لم يكن بأشخاصنا وأجسامنا فتعالوا بنا سريعاً نطير على جناح السرعة إلى بيت الله الحرام لنتعرف على قصة هذا البيت ، ومن الذى بناه ، وما الذى جعل القلوب فى كل مكان تهوى إليه. استمع أيها الحبيب الكريم يقول الله جل وعلا : إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدىً لِلْعَالَمِينَ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ [ آل عمران : 96 ، 97 ]

أيها الحبيب الكريم : ورد فى الصحيحين من حديث أبى ذر أنه سأل الحبيب المصطفى وقال : يا رسول الله أىُّ مسجدٍ وُضِعَ فى الأرض أَوَّلَ؟ ( أى ما هو أول المساجد التى بنيت فى هذه الأرض) ، فقال الحبيب المصطفى : ((المَسْجِدُ الحَرامُ)) قال أبو ذر : ثم أَىُّ؟ قال الحبيب المصطفى: ((المَسْجِدُ الأَقْصَى)) قلت (أى أبو ذر) : كم كان بينهما ؟ قال الحبيب : ((أَرْبَعُونَ سَنَةً)) ثم قال : ((وأَيْنَمَا أَدْرَكَتْكَ الصَّلاةَ فَصَلِّ فَهُوَ مَسْجِدٌ))(1) فإن أول بيت بُنَى لله فى أرضه هو المسجد الحرام.

وقال علماؤنا : إن أول من بنى البيت هم الملائكة ، ومنهم من قال : إن أول من بنى البيت هو آدم عليه السلام ، ومنهم من قال : إن أول من بنى البيت هو إبراهيم عليه السلام.
والراجح : أن إبراهيم وإسماعيل هما اللذان رفعا القواعد من البيت ، فإن قواعد البيت كانت قديمة وجاء إبراهيم وإسماعيل بأمر الله جل وعلا ليرفعا هذه القواعد كما قال ربنا سبحانه : وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [ البقرة 127 : 128 ]

القواعد : يعنى الأساس كان قديماً ، وجاء إبراهيم وإسماعيل فرفعا قواعد البيت بأمر الله جل وعلا ، وفى الحديث الطويل الذى جاء فى البخارى(2) من حديث ابن عباس أنه قال لما جاء إبراهيم بهاجر وإسماعيل عليهما السلام ، ووضعهما عند البيت عند دوحة ( شجرة كبيرة ) فوق زمزم فى أعلى المسجد وليس بمكة يومئذٍ أحدٌ ، وليس بها ماء فوضعها هنالك ، ووضع عندهما جراباً فيه تمر وسقاء فيه ماء ، ثم قفى إبراهيم منطلقاً ( أى ولى راجعاً إلى الشام ) فتبعته أم إسماعيل ، فقالت : يا إبراهيم ، أين تذهب وتتركنا بهذا الوادى الذى ليس فيه إنسٌ ولا شئ ؟ فقالت له ذلك مراراً ، وجعل لا يلتفت إليها ، فقالت له : آلله الذى أمرك بهذا ؟ قال : نعم ، قالت : إذن لا يضيعنا ، ثم رجعت.

أحبتي في الله

نريد أن نتعلم اليقين الذى علمته للدنيا كلها هاجر – عليها السلام – وهاجر من هنا خرجت ، فمن مصر خرج اليقين أيها الأحباب ، فنريد أن نعود إلى هذا اليقين وأن تعود إلى هذه الثقة بالله ، وأن نعود إلى هذا التوكل الصادق على الله جل وعلا.

يا عبد الله : أعلم بأن الضُّرَ والنَّفْعَ بيد الله ، وأعلم بان الرزق بيد الله ، واعلم بأن الأمر كله بيد الله فعليك أن تثق فى الله ، وأن تلجأ إلى الله وحده وأن تستعين بالله وحده، وأن تفوض أمرك كله لله وحده.

إياك أن تسأل غيره ، أو تذبح لغيره ، أو أن تحلف بغيره ، أو أن تطوف بغير بيته فى مكة ، أو أن تسأل غيره ن أو أن تتوكل على غيره.

يا صاحب الهمَّ أن الهمَّ منفرج
إذا بليت فثق بالله وارض به
الله يحدث بعد العسر ميسرة

أبشر بخير فإن الفارج الله
إن الذى يكشف البلوى هو الله
لا تجزعن فإن الصانع الله

قال تعالى : وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ [ الأعراف:96]

ولكن شكوا فى قدرة الله ، وما قدروا الله – جل وعلا – حق قدره.

من توكل عليه كفاه ، ومن اعتصم به نجاه ، ومن فوض الأمر إليه هداه
… وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُه … [ الطلاق : 2-3 ]

قالت هاجر : آلله الذى أمرك بهذا ؟ : قال إبراهيم : نعم . قالت هاجر : إذا لا يضيعنا!!
وانطلق إبراهيم عليه السلام حتى إذا كان عند الثنية حيث لا يرونه استقبل بوجهه البيت ثم دعا ورفع يديه بهؤلاء الدعوات : رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ [ ابراهيم : 37 ]

وجعلت أم إسماعيل ترضع ولدها وتشرب من ذلك الماء الذى كان معها حتى إذا نفد ما فى السِّقاء عطشت وعطش ابنها ، وجعلت تنظر إليه يتلوى ، فانطلقت كراهية أن تنظر إليه ، فوجدت الصفا أقرب جبل فى الأرض يليها ، فقامت عليه ثم استقبلت الوادى تنظر . هل ترى أحداً ، فلم ترى أحداً ، فهبطت من الصفا حتى إذا بلغت بطن الوادى رفعت طرف درعها ، ثم سعت سعى الإنسان المجهود حتى جاوزت الوادى ثم أتت المروة ، فقامت عليه ونظرت هل ترى أحداً فلم تر أحداً ، ففعلت ذلك سبع مرات ، قال ابن عباس قال رسول الله ((فَذَلِكَ سَعْىُ النَّاس بَيْنَهُمَا)) ، فلما أشرفت على المروة سمعت صوتاً فقالت : صه – تريد نفسها – ثم تَّسمعت ، فسمعت أيضاً ، فقالت : قَدْ أَسْمَعْتَ إِنْ كَانَ عِنْدَكَ غَوَاثٌ ، فإذا هى بالملك عند موضع زمزم فبحث بِعَقِبِهِ – أو قال بجناحه – حتى ظهر الماء فجعلت تُحَوِّضُهُ وتقول بيدها هكذا ، وجعلت تغرف من الماء فى سقائها وهو يَفُورُ بَعْدَما تغِرفُ. قال ابن عباس : قال رسول الله : ((يَرْحَمُ الله أُمَّ إِسْمَاعِيلَ، لَوْ تَرَكَتْ زَمْزَمَ)) أو قال: ((لَوْ لَمْ تَغْرِفْ مَنَ المَاءِ لَكَانَتْ زَمْزَمُ عَيْناَ مَعِيناً)) قال : فشربت وأرضعت ولدها فقال لها الَملَكُ : لا تخافوا الضَّيْعَةَ ، فإن ها هنا بيتاً لله يبنيه هذا الغلام وأبوه ، وإن الله لا يُضيعُ أهلَهُ.

قال : ثم لبث عنهم ( إى إبراهيم عليه السلام ) ، ثم جاء بعد ذلك وإسماعيل يبرى نبلاً له تحت دوحة قريباً من زمزم ، فلما رآه قام إليه ، فصنعا كما يصنع الوالد بالولد ، والولد بالوالد ثم قال : يا إسماعيل إن الله قد أمرنى بأمر . قال : فاصنع ما أمرك ربك . فيقول إبراهيم : وتعُيننى ؟ قال : وأعينُك . فقال : إن الله أمرنى أن أبنى ها هنا بيتاً ، واشار إلى أَكَمَة مرتفعة على ما حولها ، قال : فعند ذلك رفعا القواعد من البيت ، فجعل إسماعيل يأتى بالحجارة ، وإبراهيم يبنى ، حتى إذا ارتفع البناء ، جاء بهذا الحجر فوضعه له فقام عليه ، وهو يبنى وإسماعيل يناوله الحجارة ، وهما يقولان
رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ . قال : فجعلا يبنيان حتى يدوراً حول البيت وهما يقولان: رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ .

قال العلماء : لما قام إبراهيم عليه السلام على الحجر غاصت قدماه فيه وهذا هو المقام الذى نراه الآن فى مواجهة باب الكعبة شرفها الله وقد أثرت فيه أقدام الخليل عليه السلام ، وهذا هو القول الراجح فى قوله تعالى : وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىًفالمقام فى اللغة هو موضع الأقدام ، فالمقام هو الذى قام عليه إبراهيم ليعلى البناء فغاصت قدمه عليه السلام فيه ليثبته الله – جل وعلا – ولما أنهى إبراهيم البناء إلاَّ موضع الحجر الأسود ، فقال : انطلق يا بنى فأبغى حجراً لنكمل البناء ، فانطلق إسماعيل ليأتى بالحجر الأخير ثم عاد فوجد حجراً ليس من جنس حجارة الكعبة فاستغرب وتعجب إسماعيل وقال : يا أبتى من الذى جاءك بهذا الحجر . فقال إبراهيم : جاءنى به من لم يتكل على بنائى وبنائك جاءنى به جبريل من السماء ، وهذا الحديث رواه الإمام الحاكم فى المستدرك وابن أيى شيبه وابن جرير والبيهقى فى الدلائل وحسنه الحافظ ابن حجر.

لما أنهى إبراهيم البناء أمره الله جل وعلا أن يؤذن فى الناس بالحج. فقال إبراهيم ومن الذى يسمع صوتى يا رب. فقال الله جل وعلا : ((أَذَّنْ أنت وعلينا البلاغ )) . فقال إبراهيم : فماذا أقول ؟ فقال الله جل وعلا : (( قل يا أيها الناس إن الله كتب عليكم الحج فحجوا )) يقول الحبيب المصطفى : (( فسمعه مَنْ بين السماء والأرض ، ألا ترى إلى الناس يجيئون من كل فج عميق يلبون ويقولون لبيك اللهم لبيك )) ، والحديث رواه الحاكم وابن جرير والبيهقى بأسانيد قوية كما قال الحافظ ابن حجر فى فتح البارى وفى كتاب الحج.

وهكذا أيها الأحباب أتم إبراهيم وإسماعيل البناء بأمر الله عز وجل.

هذه قصة البيت بإيجاز شديد إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدىً لِلْعَالَمِينَ( وبكة هى مكة ) ، سميت مكة ببكة لشدة الزحام ، فالبك فى اللغة هو الزحام ، وقيل أيضاً : البك هو دك العنق ، فمن قصد مكة بسوء من جبار إلى ودق الله عنقه وكلكم يعلم قصة أصحاب الفيل أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ [ الفيل : 1-5 ]

إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكا ًالبركة هى كثرة الخير ، ولقد أمتن الله على أهل البيت بهذا فقال سبحانه :فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِالَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ[ قريش : 3-4 ]

مُبَارَكاً وَهُدىً لِلْعَالَمِينَ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ (أى فى البيت ) من هذه الآيات البينات مقام إبراهيم وقلت لكم بأن مقام إبراهيم هو الحجر الذى وقف عليه ليعلى البناء ، وكان هذا الحجر ملاصقاً لجدار الكعبة إلى عهد عمر بن الخطاب فلما تولى عمر الخلافة أخر هذا المقام إلى المكان الذى نراه الآن أمام الكعبة حتى لا يعوق الطائفين عن الطواف حول بيت الله الحرام وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً (أى ومن دخل هذا البيت كان آمناً ).

قال علماء اللغة : والآية خير بمعنى الأمر (أى ومن دخله فأمنوه) كما فى قوله تعالى : فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَج ّأى لا ترفث ولا تفسق ولا تجادل فى الحج ، ومن العلماء من قال من دخل البيت الحرام على الصفاء كما دخله الأنبياء والأولياء كان أمناً من عذاب رب الأرض والسماء جل وعلا كما فى الحديث الصحيح أنه قال : (( …. وَالْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلَّا الْجَنَّةُ ))(1)وفى قوله : (( مَنْ حَجَّ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفُسُقُ ، رَجَعَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدتْهُ أُمُّهُ)) (2)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى