ثلاثون عاماً من الإنقاذ – المَرِيض في العِنايَة المُرَكَّزة! .. بقلم: بلّة البكري

السودان اليوم

21 نوفمبر 2018

قال تعالى: (وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُون)) (العنكبوت: 43)

تشير إرهاصاتٌ شتى أن الوطن مقبل على تسوية سياسية، في ما يأتي من أيام. وهناك من الحالمين من بدأ يحسب دجاجاته (Counting one’s chickens)، كما يقولون، حتى لا تفوتهم الفرصة القادمة بما تأتي به من محاصصات وترضيات وزارية وبرلمانية جوفاء وغيره من ما اعتاد عليها البعض، لم تمثل يوما جزءا ولو يسيرا من الحل (الجذري) المطلوب، بل أضاقت أعباءا ثقيلة علي البلد. فما هي حال البلد قبل التسوية المرتقبة حتى يقف هؤلاء الحالمون على حقيقة الأمر ؟

في جلسه منشورة على اليوتيوب يبدو، والله أعلم، إنها ندوة أو محاضرة، لا أدري تاريخها، عن “انهيار الدولة الحديثة في البلاد العربية” تحدث فيها احد أشهر الاسلاميين الأكاديميين السودانيين ممن عافوا مغنم السلطة، حياءا وخجلا ربما من ما رأوا عليه رفاقهم من وحلٍ في أوساخ الدنيا. تحدث الرجل في تلك المحاضرة، بسمته المتواضع، حديث المحلل الأكاديمي المتمكن. علق بذهني أمرٌ واحد مما قاله في تلك المحاضرة على الرغم من اختلافي الجوهري مع طرحه عن مستحقات الحداثة على الدول التي تبتغي اللحاق بركب الحداثة، وثمن هذه المستحقات الذي ينبغي دفعه. فقد قال فيما معناه مستصحبا قولا للإمام الغزالي، إن مهمة الطبيب تصبح عسيرة، أن لم تكن مستحيلة، أذا لم يكن المريض مقتنع تماما بإنه مريض. وإن المهمة التي يجب أن يُبذَل فيها الجهد هي اقناع المرضى، أحيانا، بأنهم “مَرْضى” أولا قبل وصف العلاج. ليس مهما أن نعرف من هو المتحدث فما نحن بصدده من أقوال الإمام الغزالي على كل حال. بيد أن الاستعارة التي استخدمها بليغة بما يكفي لتنطبق على حال الوطن والقائمين على أمره من إخوانه. فمن هو المريض؟ وماهي علته؟ وفي أي مرحلة من مراحل المرض هو؟

الإشارة للمريض يمكن استعارتها لوصف حال البلد والوطن عامة، في كل أوجه الحياة التي تعتبر مؤشرات صحة وعافية لأي بلد في العالم يسير على الطريق الصحيح نحو التنمية. يشمل ذلك في الحد الأدني الأمن القومي وصحة البيئة والإقتصاد ومؤشراته من تضخم ومواكبة الإجور وقيمة العملة المحلية وتدفق الاستثمار الأجنبي المباشر (Foreign Direct Investment “FDI”) وتوفر فرص العمل للجميع؛ كما يشمل الرعاية الإجتماعية والتنمية الريفية والتعليم والخدمات الصحية وسيادة حكم القانون والحريات العامة والاستقرار السياسي. فكل هذه الأشياء لها مؤشرات معروفة يمكن قياسها تماما كما يقيس الطبيب مؤشرات صحة الجسم البشري والتي تشمل درجة الحرارة وضغط الدم ومستوى السكر والأملاح والأكسجين وما شابه. فبعد الكشف المختبري الذي يجريه الطبيب هناك أعراض يُحجز بسببها المريض لخطورة حالته التي تتطلب رعاية طبية لصيقة. وقد يتم في بعض الأحيان تحويل المريض الى وحدة العناية المركّزة إذا لزم الأمر ليتم انعاشه بشتى الوسائل.

الوطن هو شغلنا الشاغل جميعا في هذا الظرف الحرج من تاريخه. فما زال بعض المسئولين ينكر أن به عِلّة متناسين نهجهم الأحادي في إدارة الشأن العام والذي قاد الى الفساد والتخبط وغياب الرؤية الاستراتيجية . بل منهم من قال إن الوطن بصحة وعافية تامة رغم ما نراه من انهيار أقتصادي ماثل للعيان مع كل تداعياته المخيفة على كل الأصعدة. ففي حديث منشور للسيد الرئيس يقول فيه الى أن الشعب “جاحد” معددا انجازات حكومته كدليل على هذا الجحود. وقبل سنوات تحسب في أصابع اليد الواحدة جلس الرجل في حوار على الملأ مع أ. الطاهر حسن التوم ليقول إن هناك من الترتيبات الإقتصادية تقبل عليها حكومته ستجعل سعر الدولار الأمريكي يستقر في حدود الثلاثة جنيهات (المصدر يوتيوب). وهاهو الدولار يتحدى تلك المقولة، في فترة وجيزة نسبيا، ليس مرة أومرتين أو ثلاثة بل عشرين مرة أو نحو ذلك. فأذا تغاضينا عن أي أمر آخر من علل الوطن فهذا المؤشر لوحده (في الشأن الإقتصادي) يماثل حال مريض ارتفع ضغط الدم لديه او مقياس السُكَّر في دمه عشرين مرة. وعلى الرغم من إني لست طبيبا ولكن في غالب الظن سينتهي أمر هذا المريض الى غرفة العناية المركزة؛ هذا إن كان حيّا ولا زال يتنفس! فليترك الإنقاذيون ما يقول به المعارضون عن حال البلد إن شاءوا. ولكن هل حان الوقت لهم أن ينتبهوا للحكمة الكامنة في مثل ما يقول به إخوانهم الذين لا زال بهم حياء! هذا ما كان من أمر البلد اقتصاديا وسياسيا (إن شئت)؛ وقس على ذلك في بقية المؤشرات. فما هو المخرج من هذا المأزق؟

الإجابة ببساطة هي حل يأتي ب(تغيير جذري) في الوضع السياسي في البلاد؛ بحيث تتحول قيادة البلاد فورا الى أفضل من أنجبه البلد (سياسيا) بغض النظر عن حزب أو عرق أو دين. يأتي بعد ذلك مباشرة إعادة تأهيل وبناء للمؤسسات الضرورية لانعاش البلد والتي هي بمكان القلب والكبد والرأتين والكِلى من الجسم؛ يمكن حصرها في (العدل) و(الخارجية) و(القوات النظامية) و(البنك المركزي) و(الاقتصاد والتجارة الخارجية) كمرحلة أولى يتبعها تحرير المؤسسات الأخرى. أعلم إن هذا حديثٌ يبدو كالحلم ويتعارض أفقيا ورأسيا مع احلام الكثيرين في مواصلة الفساد والإفساد التي أدخلت وطننا لغرفة العناية المركّزة. بل ويتعارض مع اشواق رئيسنا المفدّي والذي على الرغم من بقائه محاربا ومنبوذا معزولا هو وبلده من المجتمع الدولي لعشر سنوات على الأقل لا زال يحلم بدورة رئاسية سابعة وهو على مشارف الثمانين. وها قد قررت الحركة الاسلامية في مؤتمرها الأخير مباركتها لترشيحه رغما عن أنف الدستور الذي ينص على غير ذلك! أصحوا يا عالم؛ فالتاريخ لا يرحم لكون المريض في العناية المركّزة!!

(ballah.el.bakry@gmail.com)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى