تنمية حب الوطن

مفهوم الوطن

لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يوجد تعريفٌ جامعٌ ومُتماسك لمفهوم الوطن، حتّى إن كان الحديث عن الارتباط التاريخيّ بالأرض ومسقط الرّأس أو البيت، أو جهة الانتماء عند الكثير من الشّعوب المتمدِّنة والشّعوب البدائيّة على حدّ سواء.[١]

يُمكن القول أنّ الوطن هو تلك المساحة من الأرض التي شهدَتْ ولادة الإنسان فيها، لكنّها كلمة الوطن كذلك لها الكثير من المعاني الثّابتة في النّفس البشريّة منذ القِدَم، فهي الأرض، والحُبّ، والعائلة، والذّكريات، والأحداث، والحياة.[٢]

إنّ المفهوم الحاليّ والمُنتشر لكلمة الوطن ، أتى عبر تداخل الكثير من المفردات على مرّ العصور ، والتغييرات النوعية في الأمور السياسيّة والدوليّة ، فأصبحَ واضحاً بحيث لا يحتاج إلى الكثير من الحديث فيه ، ومُلتبِساً بحيث يحتاجُ إلى فكّ هذا اللّبس والغموض . ولذلك يُمكن تعريف الوطن عبر عدّة مفاهيم أساسيّة، هي:

الجغرافيا

إنّ الوطن يقوم على عدّة أركان منها الجغرافيا؛ فالوطن يقوم على المكان الذي يسكن فيه الإنسان، سواءً كان مُسمّاه بلداً أو وطناً أو أيّ شيءٍ آخر، فلا يُمكن تخيُّل وجود وطن دون جغرافيا ومساحة تحويه وتحوي الشّعب داخلها، مهما كان واسعاً أو ضيّقاً، لكنّ الجغرافيا هي الرّكيزة الأولى.[٣]

العاطفة

يقوم الوطن على عاطفة لارتباطه بهذه الأرض وشعورِ شعبه نحوه بالانتماء والحبّ، وكان النّبي عليه الصّلاة والسّلام يقول لمكة: (علمتُ أنكِ خيرُ أرضِ اللهِ ، وأحبُّ الأرضِ إلى اللهِ، ولوْلا أنَّ أهلَكِ أخرَجُوني مِنكِ ما خرجتُ)[٤]، وكان إذا رأى المدينة يفرح ويُسَرّ ويظهر عليه السّرور، ويقول: (هذه طابة).[٥][٣]

المصالح المشتركة

إنّ الوطن يقوم على المصالح المشتركة، أو يمكن أن يُعبّر عنها بالحقوق؛ فالوطن هو أيضاً حقوق مُشتركة بين أفراده وبين مواطنيه، أي أنّ الوطن أيضاً يُحبّ هذا الإنسان ويمنحه حقوقه، ويمنحه المُساواة في الحقوق من خلال قانون أو دستور مُوَحّد، ويحقّقُ الوطن لك المساواة في الفرص، والمساواة في التّنمية ممّا يُحقّق معنى الوطنيّة.[٣]

الهوية

إنّ الوطنيّة تعني وتشمل الهوية؛ فالهويّة جزء من الوطنيّة، سواءً كانت هذه الهوية هي الإسلام أم غيره، كما أنّه في العالم الإسلاميّ يوجد جزءٌ من الهوية العربيّة مُتمِّثلاً في اللّغة العربيّة، والثّقافة، والأخلاق، والعادات والتّقاليد المقبولة والمُستقرّة والمُتعارَفة عند النّاس، هذه الهويّة أيضاً هي جزء من الانتماء الوطنيّ.[٣]

واجب المواطنين تجاه الوطن

الولاء

يُعتبر الولاء للوطن من أهمّ الواجبات التي يجب الالتزام بها تجاه الوطن، فالولاء يعني أن تكون المشاعر والأعمال خالصةً للوطن ولمصلحة وطنك وألّا يُفضّلَ أي شيء آخر عليه، ومُقابل الولاء الخيانة، فلا تجوز خيانة الوطن وتدميره بأيّة وسيلة من وسائل الخيانة، فقد تكون هذه الأفكار الخائنة بأن يتمّ التّشجيع على الهجرة لبلاد أُخرى فهذا يُعتبر من عدم الولاء للوطن، وكذلك التّحالف مع الأعداء بأيّة طريقة قد تَضُرّ بالوطن، أو القيام بتشويه صورة الوطن. ويكون الولاء للوطن من خلال القيام بالأفعال التي ترفع من قيمته وتزيد من ارتقائه بدلاً من الأشياء التي تجعله مُتخلّفاً رجعيّاً؛ فتهريب البضائع والمُخدّرات والأشياء التي تُفسد المُجتمع، كلّ هذا يُعتَبر من عدم الولاء للوطن؛ فالولاء يكون من خلال التّعامل مع الوطن بشكل سليم.[٢]

والولاء للوطن له أسسٌ ثابتةٌ والتزامات ظاهرةٌ يَجبُ أن لا تُحابي أحداً، وألّا تضعَ فرقاً بين إنسان وآخر، ولا فرق بين دولةٍ وأُخرى وتنظيم وآخر، فالقانون يجب أن يشمل الجميع.[٦]

الحب

إن الشّعور بالحبّ تجاه الوطن هو واجبٌ وطنيّ، كذلكَ الشّعور بالحنين والاشتياق للعودة له، وحبّ جميع الأشياء الموجودة فيه، ويأتي هذا الشّعور عن طريق التَعلّق به وبجميع مُمتلكاته والشّعور بالسّعادة؛ لأنّ الإنسان يعيش فيه ويموت فيه، ويفخر بذكرياته الذي عاشها فيه، ويسعى لقضاء أجمل الأوقات فيه، ويكوّن صداقاته داخل الوطن ليزيد تعلُّقاً به.[٢]

وحبّ الوطن غريزةٌ مُتأصّلة في النّفوس يُستراح إلى البقاء فيه، ويشتعل شعور الحنين إليه إذا غاب عنه، ويُدافع عنه إذا هوجم، ويُغضب له إذا انتُقص. إنّ حبّ الوطن الذي لا يحمل الإنسان على عرفانه وحماية مكاسبه وصيانة خيراته ومُقدّراته من كل جاحد أو مُتربِّص في الدّاخل أو الخارج ليس هو الحب الذي يُرضي الله ورسوله والمخلصين.[٧]

التّضحية من أجله

إنّ من إثبات الولاء للوطن التّضحية من أجله وافتداءه بالرّوح -إذا تطلّب الأمر-؛ وذلك لأنّ الإنسان يُريد لوطنه السّلام والعيش الرّغيد. تكون التّضحية بالمال والنّفس والولد، وهذا ممّا يجب أن يعيه المُواطنون جميعاً، فإنْ احتاج الأمر للتّضحية بأبنائهم ليحرروا البلاد من الأعداء، والتّضحية بأموالهم مهما كانت، فإنّهم يُقدّمونها بكلّ فخر. وطن الإنسان هو نفسه، وعندما يحتاج إليه عليه أن يُلبّيه ويعمل بكلّ طاقته ليُوفّر ما يحتاجه من أمن وسلام.[٢]

تُعَدّ التّضحية لأجل الوطن من القِيَم التي رسّخها الدّين في النّفوس؛ لأنّه في الوقت الحاضر يستحيل أن يعيش الإنسان بكرامته دون وطن يُؤويه ويعيش في كَنَفه، لذلك فإنّ من يُضحِّي لأجل وطنه فإنّه قد قدّم أجزل الأمثلة وأروعها في حُبّه وفداءِه؛ لأنّ الوطن يستحقّ ذلك.[٨]

العمل على ارتقائه

الذي يعمل على ارتقاء الأمم ويجعل من الأوطان منارةً هُم الشّعوب، فحتّى يكون الوطنُ راقٍ يتمنّى الجميع أن يكون أحد مواطنيه فعلى المواطنين جميعاً أن يتَّصِفوا بالرُّقي والأخلاق الحميدة والعادات الحسنة. وإن من أهمّ مُقوّمات ارتقاء الشّعب هو العِلم، وأن يُصبح الوطن من أفضل الأوطان في جميع المجالات، فالعلم يستطيع أن ينهض بالأوطان من القاع ليصل بها إلى أعلى الدّرجات؛ فها هو شعب اليابان بعد الذي حدث لهم في الحرب العالميّة الثّانية قد ضحّوا بأموالهم وتكاتفوا ليصبحَ وطنهم أفضلَ، وليجتاز ما وصل إليه من دمار وخراب، واستطاع بسبب استبسال شعبه أن يرتقوا في علمهم، فأبدعوا في الكثير من المجالات، وكثَّفوا طاقاتهم في العِلم والتّطوير.[٢]

العمل على رفع قيمة الوطن

بعد معرفة قيمة الوطن فإنّ من الواجب على المواطن رفع هذه القيمة ليَعرفها من لم يعرفها بعد، ويكون رفع قيمة الوطن بالعَمل على ارتقائه، وعمل الإنجازات التي تُحقّق التّرقية والصّعود له وتمييزه؛ حتّى لا يصل لمرحلة التَخلُّف، ويُمكن الرّفع من قيمته كذلك عن طريق عكسِ صورةٍ حسنةٍ عنه؛ كأن يُعامل الإنسان النّاس خارج وطنه بالحُسن، في المطارات والمحافل الدوليّة، وألّا يَخرج منه إلا كلّ طيّب.[٢]

واجبات أُخرى تجاه الوطن

  • خدمة الوطن: لا شكّ أنّ الإنسان باستطاعته أن يخدم وطنهفي مُختلف المجالات والأنشطة من خلال عمله والإخلاص في أداء واجباته الوظيفيّة بأمانةٍ وإتقانٍ بجميع المِهَن والتَخصُّصات، من أبسط وأسهل الوظائف إلى أعلاها وأعقدِها، فالوطنُ لا يقوم به مِهنة واحدة، إنّما هو امتزاجٌ لكلّ المِهَن والمهارات والشّراكات، فالجميعُ شركاءٌ في صناعة مجد الوطن وتنميته، كلٌّ بما يستطيع ضمن سياق عمله.[٩] وإنّ الوطن بحاجة إلى المُوظّف المُتخصّص والمُتمكّن من تَخصُّصه لخدمة مسيرة التّنمية، إلا أنّ الوطن بحاجة أكثر إلى المواطن المُستنير في فكره والواثق بنفسه والمُشبَع بهويّة وطنه.[١٠]
  • العمل على تطويره: إنّ الشّباب من ركائز الوطن وعماده، بهم يقومُ ويقوى، وبدونهم يَهمدُ ويضعُف، وترتفعُ الأمموالشّعوب وتتقدّم بهمّة وقوّة وسعي أبنائها وشبابها لذلك، كما أنّها ترجعُ عن ركب التقدّم وتتخلّف بركونهم إلى الجهل والخمول.[١١] لذلك فمن الواجب أن يعملوا على تطوير أوطانهم بشتّى الوسائل وفي كل المجالات.
  • الدّفاع عنه: في حالات تعرّض الوطن للخطر فيجب بذل جميع الجهود للدّفاع عنه بكلّ شهامةٍ، ويكون الدّفاع عنه في كلّ الطّرق والوسائل. وقد رسّخت الشّريعة الإسلاميّة أنّ حماية الوطن والذّود عنه من المخاطر والصّعوبات أساسٌ دينيّ ثابت؛ فقد قرنَ الله تعالى حُبّ الأوطان والدِّيار بالديّن.[١٢] في قوله تعالى: (لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ).[١٣]
  • الحِفاظ على ممتلكاته: من الواجب تجاه الوطن عدم التعرّض لمُمتلكاته بالإيذاء أو التّخريب؛ لأنّها تُمثّل صورةً عن مدى تطوّر شعبه وارتقائه، فيجب المُحافظة على الشّوارع والحدائق لتبقى نظيفةً وجميلةً، والمساكن والمباني والمعابد لتبقى قائمةً دون تخريب، والمُحافظة على الآثارالقديمة الموجودة فيه وحفظها من السّرقة والضّياع. فإنّ المُمتلكات العامّة هذه هي ملكٌ للجميع لا ملك خاصّ لأحد، والمُحافظة عليه واجبٌ على كل مواطن قادر على ذلك، كمحافظته على ماله ومُمتلكاته الخاصّة، فإنّ حفظه والدّوام على ذلك لهو حفظٌ لموارد الدّولة للأجيال كلّها، وإنّ هذا الفعل لهو مظهرٌ واضحٌ يُبيّن الانتماء والوفاء للوطن.[١٤]
  • الافتخار به: يجبُ الافتخار بالعيش في الوطن والاعتزاز بذلك، ويظهر هذا في تصرّفات مواطنيه؛ فمثلاً يُجيبون بكلّ عِزّةٍ وثقة وافتخار بأنّهم من هذا الوطن عندما يسألهم أحد عن وطنهم، دون تهرُّبٍ من الإجابة أو كذب، كذلك عندما يُشعرون السُيّاح بانتمائهم وحبّهم له فإنّ ذلك يُظهر محاسن البلد ومجده لدى شعبه.
  • الالتزام بالقوانين: في كل بلد يوجد قوانين يجب احترامها، فلا يجوز عمل الأشياء غير مشروعةٍ؛ لأنّ القوانين التي تضعها الدّول هي الأساس في مَصلحة أبنائها، فلذلك على المواطنين احترام هذه القوانين بكلّ فخر واعتزاز.[٢]
  • احترام عاداته وتقاليده: لكلّ وطن عاداته وتقاليده التي تُميّزه عن غيره، فعلى مواطنيه احترام هذه العادات وعدم الخروج عن نطاقها إذا كانت لا تُنافي الدّين وتُرضي الله -عزّ وجلّ-، فإذا كانت العادات تُنافي ما جاء به القرآن الكريم يجب الابتعاد عنها وتركها، أمّا عكس ذلك فيجب احترامها حتّى لو لم يُريدوا الالتزام بها ولا يجوز السُّخرية منها.[٢]
  • الاهتمام بتاريخه عبر العصور: يجب الاهتمام بدراسة تاريخ الوطن عبر العصور؛ ما هي التغيُّرات التي حدثت عليه؟ وما هي الإنجازات التي قام بها؟ والحروب التي شارك بها، والثّورات والحوادث المُهمّة التي حدثت به، لكي يتمّ فهم تاريخه والعمل على أساسه.[٢]
  • الاهتمام بالآثار الموجود فيه والاهتمام بالتُّراث الخاصّ به: وذلك لأنّ الأجداد وأجداد الأجداد قد تركوا عبر العصور إنجازاتهم من مبانٍ وزخارفَ يمكنُ الافتخار بها، فلذلك يجب المُحافظة عليها من التّلف والضّياع، ووضعها في مَتاحف لتتعرّف عليها الأجيال القادمة ويعتزُّوا بالماضي الذي وُجدَ قبلهم فيزيد حبّهم للوطن، كما يجب الاهتمام بتراثه من لباسه الخاصّ، وعادات رقصه، والمُناسبات الخاصّة المُميّزة فيه.[٢]
  • التحدّث بلُغة الوطن: الاعتزاز بلغة الوطن والتّحدث بها من أهمّ واجبات المُواطنين، ولا يعني ذلك عدم التعرُّف على لغات أخرى، لكن يجب أن تكون لغة الوطن هي الأصل والأساس.[٢]

الوطن في نظر الإسلام

إنّ محبّة الوطن والانتماءِ له في نظرِ الإسلام لا يقتصرُ على ذلك الشّعور الإنسانيّ المليء بالعبارات البرّاقة والتي تنحصرُ في ميول القلب دون أفعالٍ وسلوكاتٍ مُنضَبطَة تُترجِمه، هذه السّلوكات تعريفٌ عامٌ عن مقدار حُبّ الفرد لوطنه؛ فيُحاسب عليه بالثّواب إنْ أحسنَ ووفّى، وبالعقاب إنْ قصّر وأخلَف.

كما أنّ حُبّ الوطن في الإسلام قد أثبّته القرآن الكريم ورسّخته السُنّة النبويّة في نفوس المسلمين عبر توجيهات الرّسول عليه الصّلاة والسّلام بذلك، فقد رسّخ الرّسول الكريم -عليه الصّلاة والسّلام- أنّ حُبّ الأوطان يتجاوز حُبّ المرء لأهله وولده رغم مكانتهم العالية لديه، فكلّ هذه الأمور الغالية على النّفس تأتي في نفس الإنسان بعدَ حبّ الوطن، ولذلك يُرى المُسلمون المُرتبطون دينيّاً ووجدانيّاً بأوطانهم يتواجدون في ساحات المُواجهة دفاعاً عن هذا الوطن، ولا يتراجعون أو يتقاعسون أو يتخاذلون عن نصرته والدّفاع عنه والتّضحية من أجله.[١٥] يقول الشّاعر فوزي معلوف:

مهما يَجُر وطني عليَّ وأهله

فالأهلُ أهلي والبلاد بلادي.[١٦]

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى