تكفير أهل القبلة , الشيخ الدكتور سفر بن عبدالرحمن الحوالي

عناصر تكفير أهل القبلة
1 – اجتماع الحسنات والسيئات

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على عبده محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين أما بعد:
فقد ذكرنا آيات القصاص وآيات قتال الطائفتين من المؤمنين، اللاتي ذكرهم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في سورة الحجرات، وكذلك ذكرنا الحديث الأول وهو قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {من كانت له مظلمة من أخيه فليتحلل منه اليوم، قبل أن لا يكون دينار ولا درهم، إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلِمته، وإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئاته فطرحت عليه }.
اللفظ بين الشرع والعرف

والحديث الثاني الذي رواه الإمام مسلم وهو قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأصحابه: {أتدرون من المفلس؟ قالوا: المفلس من لا درهم له ولا متاع, فقال: إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، فيأتي وقد شتم هذا, وقذف هذا, وأكل مال هذا, وسفك دم هذا, وضرب هذا؛ فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته؛ فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه، أخذ من خطايا من ظلمهم فطرحت عليه ثم طرح في النار } وإن هذا الحديث يفيدنا كما تفيدنا أحاديث أخر تصحيحاً للمفاهيم والمقاييس؛ من خلال تحرير وتصحيح المصطلحات, فالناس في نظرهم مصطلحات تطلق مثل: فلان حر, أو فلان عدل, وفلان فيه خير, وفلان عاقل وغير ذلك, ولكن قد تكون بخلاف المراد والمطلوب شرعاً، فاللفظ يطلق في الشرع لمعنى آخر يدل على صفة حقيقية إما من عمل الطاعات أو غيره.
أيضاً: في الجانب الآخر قد يكون للظالم أو الباطش أو ما أشبه ذلك صفة في الشرع غير ما في نظر الناس, فمثل هذه الأحاديث تفيدنا في كيفية وزن الأمور وكيف نعرفها, وكيف نستخدم الألفاظ؟ فهذا من حكمة الدعوة.
فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {أتدرون من المفلس؟ } وهذا سؤال أكثر الناس يعرفون الجواب عليه من خلال حياتنا العادية.
{قالوا: من لا درهم له ولا متاع } وهذا معروف عند الناس؛ لكن ليس هذا هو الجواب, وكأنهم يقولون: هذا في واقعنا, وفيما نقيس نحن, وإذا كان: لديك يا رسول الله شيء آخر فعرفه لنا. وهذا كمثل الشديد عند الناس هو القوي الذي يصارع القوم فيغلبهم, والغني هو صاحب الأموال الذي يكنـزها, فالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصحح هذه المفاهيم الدنيوية إلى مفاهيم شرعية فيقول: { ليس الشديد بالصرعة، ولكن الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب } ويقول: {الغنى غنى النفس } فالمفلس ليس هو ما تعارفتم عليه؛ ولذلك قال: { إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة, وصيام, وزكاة } وهذا يدل على أنه يفعل الحسنات, ويقوم بالطاعات؛ فالصلاة, والصيام, والزكاة أعمال وطاعات؛ بل هي أركان الإسلام, والمواظب عليها موعود بالخير , والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شبَّه الصلوات الخمس بنهر جار يمر على باب أحدنا يغتسل فيه كل يوم خمس مرات.
من الذنوب ما لا يكفره الاستغفار والتوبة

وكثير من الناس ينظر إلى هذا الحديث -حديث تكفير الصلوات الخمس للخطايا- وينسى الحديث الآخر وهو أن هناك ما لا تكفره الصلاة, ولا الزكاة, ولا الصوم وهو حقوق العباد, لأن حقوق العباد لا تكفر إلا بأدائها إليهم أو بأخذ حسنات الآخذ، ولذلك فإذا اغتبت إنساناً ولم تستطع أن تتحلل منه فاذكره بالخير واثن عليه؛ فهذا يكافئ ذاك، لكن الخاسرين هم من قال الله عنهم: قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [الزمر:15] فأكبر خسارة هي خسارة الآخرة، أما الدنيا ففيها دراهم ودنانير, وفيها رهن وفيها شيء كثير، وكم من مؤمن ضيق الله عليه رزقه ابتلاءً؛ لكن يوم القيامة ماذا يعمل الإنسان وليس عنده إلا الحسنات أو السيئات؟! جنة أو نار, فيأتي بهذه الأعمال الصالحة فتوضع له, والله تعالى لا يظلم أحداً, وسوف نأتي -إن شاء الله- إلى وضع الميزان، وأن مذهب أهل السنة والجماعة الإيمان به وإثباته كما أخبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأن له كفتين, وأن الأعمال توزن, وأن الأشخاص يوزنون كما قال تعالى: وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الأعراف:8] وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ [المؤمنون:103] وقال أيضاً: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ [الأنبياء:47] فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ [الزلزلة:8] والآيات والأحاديث في الميزان تدل على هذا الأصل من أصول أهل السنة والجماعة وهي اجتماع الحسنات والسيئات والموازنة والمفاضلة بينها؛ فمثلاً ربما يأتي الإنسان بصلاة, وصيام, وزكاة, بل ربما يأتي بجهاد ومعه غلول, أو يأتي بجهاد ومعه شرب خمر كما في قصة أبي محجن الثقفي مع سعد بن أبي وقاص فالنفس الإنسانية خلقها الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مفطورة على أن يأتي منها هذا وهذا، وقل أن تتمحض لأحدهما.

فنجد -مثلاً- أنه حتى الكفار مفطورين على حب العدل, وكراهية الظلم, فالنفس الإنسانية جعلها الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مرنة تقبل الخير والشر ويجتمعان فيها، وهذه من حكمة الله، ومن ابتلاء الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن جعلها هكذا.
وكما أخبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {أصدق الأسماء حارث وهمام } لأن الإنسان دائماً يهم ويفكر ويعمل، ولكن كيف يكون هذا العمل؟ {من الملك لمة ومن الشيطان لمة } كما في حديث ابن مسعود رضي الله عنه, وهذا دليل على منهج أهل السنة والجماعة في اجتماع الخير والشر للإنسان؛ فتجتمع كبائر موبقات مع حسنات بالغات، فيقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: { من يأتي بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا وسب هذا }، وقد قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: { سباب المسلم فسوق } وما أكثر من يشتم الناس الشتم بأنواعه! إما أن يدعو شخصاً بلقب معين, وإما أن يأتي وقد قذف هذا بمصيبة, أو أكل مالَ هذا, أو سفك دمَ هذا, وهذه أمثله قد تجتمع جميعها في واحد, وقد يقع منها ثلاثة, أو اثنين أو واحد بحسب تقوى المرء؛ إنما المراد أن هذا يقع، فهذا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يضرب مثلاً للصورة الذهنية المتكاملة؛ أنه في جانب الحسنات أتى بصلاة وزكاة وصيام, وفي جانب السيئات أتى بشتم, وقذف, وضرب, وسفك دم, فكيف يكون الحكم؟ فيعطى هذا من حسناته, وهذا من حسناته, فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من خطاياهم وطرحت عليه.
إذاً عندنا احتمال أن يعطيهم من حسناته ويبقى له حسنات فيكون ناجياً، فيحتاج الواحد منا -على الأقل- إذا كان يعرف أنه يقع في أموال الناس ودمائهم وأعراضهم أن يجتهد في كسب الحسنات حتى يبقى له منها شيء, فالعاقل من يتدبر ويفكر في عاقبته.
أما الاحتمال الآخر الذي ذكره النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهو أن تفنى حسناته قبل أن يقضى ما عليه، فتنتهي ولا يزال غارماً لم يقض دينه، ولا أعطاهم حقهم، والحسنات قد انتهت، فهنا لا بد من عدل, ولا بد من القصاص بين يدي الله الذي لا يُظلم أحد عنده، فيؤخذ من سيئاتهم فتطرح عليه، وقد يكون المقذوف من أهل الفسق والزنا والفجور الذين لهم سيئات, لأن الحديث يدل على هذا المذهب من الجهتين, من جهة المفلس ومن جهة أصحاب الدين، فهؤلاء أيضاً لهم سيئات, ولكن مع ذلك لا يسقط حقهم في المطالبة والمؤاخذة فيأخذون حسناته, فما الفائدة إذاً؟
كنت ترى من فضل الله عليك في الدنيا أنك كنت تقوم تصلي وهؤلاء يفسدون في الأرض, ويسرفون على أنفسهم بالمعاصي؛ فالنتيجة أن معاصيهم أخذت فطرحت عليك -نعوذ بالله من سوء الخاتمة- وكفى هذا زاجراً للمؤمن أن يكف لسانه ويده عن المسلمين، كما قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {كل المسلم على المسلم حرام؛ دمه وماله وعرضه } فلو روعيت هذه الحرمات, وأعطيت حقها, وحفظها المسلمون لكان حالهم غير الحال، ولكن نرى أكثر الناس يستسهلون ذلك حتى لا يكادوا يعدونها من الذنوب.. فالحذر الحذر!
2 – الحسنات يذهبن السيئات

أما قول الله تعالى: وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ [هود:115] هذه الآيات نزلت في رجل من الأنصار اجتمعت فيه الحسنة والسيئة كحال أكثر الخلق، كان يبيع التمر فأتته امرأة فراوده الشيطان عليها, فقال لها: عندي في البيت ما هو أجود منه، فهلمي إلي, فذهبت معه فلما خلا بها قبلها, ولم يفعل الفاحشة؛ لكنه فعل مقدماتها, وسرعان ما أفاق كما ذكر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ [الأعراف:201] فترك السوق, وذهب إلى الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقال: يا رسول الله! وقع مني كذا، إلا أني لم أفعل الفاحشة فماذا أصنع؟
كان الرجل متأثراً وعرف كيف أوقعه الشيطان وتلاعب به, ثم إنه جاء إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعرض عليه الموضوع بنية التوبة، وأدرك صلاة الجماعة مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فقال له النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: { أصليت معنا؟ قال: نعم، فقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن الحسنات يذهبن السيئات } فأنزل الله عليه هذه الآية, وغفر له بمجيئه إلى المسجد مع الندم والتوبة وعرضه ذلك على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على سبيل أن يبحث له عن مخرج، فدل ذلك على أن الحسنات إذا فعلها الإنسان فإنها تكفر عن الإنسان, ولا سيما اللمم: إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ [النجم:32] وهذا اللمم فسره كثير بمثل؛ البسمة, والقبلة, وكلمة الغيبة التي لا يخلو منها إنسان إلا من رحم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يعفو ويغفر اللمم بالمداومة على الطاعات والحسنات, ومن ذلك كثرة الخطا إلى المساجد, وانتظار الصلاة بعد الصلاة, فإذا قال إنسان: سبحان الله وبحمده مائة مرة غفرت له ذنوبه وإن كانت مثل زبد البحر -وكذا إذا قال:- لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير مائة مرة.
فعندنا مطهرات, فنحن لا نخلو من الدرن مثل الإنسان عندما يمشي في الشارع وتمر من جنبه دراجات فيصيبه الوسخ؛ فيرجع إلى البيت فيرى بقع الوسخ في ثوبه, فيغسله بالصابون والمطهر, وكذلك الاستغفار يذهب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى به الذنوب والخطايا إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً [الزمر:53] بالتوبة والاستغفار، ومن ذلك فعل الحسنات إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ [هود:114] فلم نخلق نحن لنظل صفحة بيضاء لا نخطئ، ونحن إن لم نخطئ فسنقصر في الواجبات, فالمعاصي لازمة, لكن دواؤها بالتوبة, وأعجبتني كلمة قرأتها لـابن الجوزي رحمه الله.
قال له رجل: أيهما أفضل لأصحاب الذنوب: الذكر أم الاستغفار؟
فقال له: ‘الثوب الدنس أحوج إلى الصابون منه إلى البخور’ فقد جعل الاستغفار كالصابون بمعنى أن الإنسان إذا فعل المعاصي فأهم شيء هو أن يتوب ويندم ويستغفر، بخلاف ما لو فعل الإنسان الطاعات فهذا يذكر الله ويسبح الله.
والاستغفار أدعى للمحاسبة حيث يفكر العبد في الذنب الذي يستغفر منه فلا يعود إليه, والإيمان يزيد وينقص, والنفوس تتفاوت في الغالب, فالواجب على الإنسان أن يحاسب نفسه.
إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ [هود:114] فيجتمعان على مذهب أهل السنة والجماعة في الإنسان ويمكن أن يجتمعا في كل إنسان إلا من عصمه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى من الرسل.
يقول الإمام المصنف رحمه الله: ‘وقد دلت الآيات السابقة آيات القصاص وآيات القتال وآيات من كانت له مظلمة’ هذه النصوص تدل على أنه في حالة يعمل حسنات تمحو تلك السيئات، وأنه يجتمع فيه عمل الخير مع المظلمة, والعمل الصالح مع المظلمة، وكذلك -كما في الحديث الآخر- تجتمع الصلاة والصيام مع الشتم والضرب والقذف, وكذلك في آية هود تجتمع الحسنات مع السيئات فمن الممكن أن يأتي بهذه وتلك وهو لا يزال في حدود الإسلام، وما يزال من أهل الملة, فهو يخطئ ويصيب ولكنه لم يخرج من دائرة الإسلام إلى دائرة الكفر.
3 – مذهب المعتزلة والخوارج في مرتكب الكبيرة

ثم قال المصنف رحمه الله: ‘والمعتزلة موافقون للخوارج هنا في حكم الآخرة فإنهم وافقوهم على أن مرتكب الكبيرة مخلد في النار’ ولهذا نختصر هذه الجملة بعبارة سهلة وهو أن نقول: إنهم متفقون في الحكم مختلفون في الاسم.
قال: فيوافقون الخوارج في حكم الآخرة، فإنهم وافقوهم على أن مرتكب الكبيرة مخلد في النار، أما الخوارج فمذهبهم معروف في هذا كما تقدم في حديث: {لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن } أي: أن من زنى فهو كافر مخلد في النار لا يخرج منها أبداً, فجعلوا الزاني, والسارق, وشارب الخمر مرتداً على اختلاف وتفصيل في فرقهم ومذاهبهم.
أما المعتزلة فوافقوهم في الحكم، فقالوا: إنه مخلد في النار يوم القيامة وحكمه كحكم اليهودي, والنصراني, والمجوسي, والمشرك, سبحان الله! هل هذا من العدل؟! ولو تأمل أصحاب العقول السليمة لوجدوا أن مذهب أهل السنة هو المذهب المتفق مع النصوص من جهة, ومع الفطرة السليمة من جهة أخرى، وذلك أن من صلّى, وصام, وحج البيت الحرام, ولكنه زنى, أو شرب الخمر, لا يعامل معاملة اليهود والنصارى، فقد قال الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ [الأعراف:156] ولكن إذا عميت البصيرة واتبع الإنسان هواه؛ فإنه يضرب بالنصوص عرض الحائط ولا يبالي, والمعتزلة تورعوا, ولكنه ورع بارد لا ينفع في شيء فقالوا: لا نقول إنه كافر ولا مؤمن؛ بخلاف الخوارج الذين قالوا: إنه كافر، بل حكمت المعتزلة عليه أنه فاسق، أي أنه ليس بمؤمن ولا كافر، لا على أساس الفسق الذي لا يعني الخروج من الملة، فلابد من إيضاح هذه العبارة على مصطلحهم، وتقول المعتزلة بأنه في منزلة بين المنزلتين ويزعمون أن الحسن البصري رحمه الله وافق مذهبهم وقال بقولهم، فـالحسن رحمه الله قال: [[كيف نقول: إنه مؤمن وقد ارتكب ما ارتكب؛ ولا نقول إنه كافر ولم يخرج من الدين؛ لكن أقول: إنه منافق؟ لأنه ادّعى الإيمان وتسمى باسمه, ولم يمتثل أمر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى, فوقع فيما حرم الله فترك ما أمر الله منه ]] فـالحسن لم يقل هذا القول على أساس أن يخالف أمر أهل السنة والجماعة ، أو يعطل مذهب أهل السنة ، بل سئل سؤالاً فأجاب, وهكذا كثير من الناس, كما في قصة ذر بن عبد الله شيخ المرجئة لما قيل له أول عمره في هذا الأمر قال: (إنما هو أمر رأيته) وبعد زمن وإذا به يدعو الناس إليه، فنوظر بعد ذلك في قوله الذي قال فقال: ‘والله الذي لا إله غيره إنه الدين الذي بعث الله به النبي نوحاً والنبيين من بعده’ سبحان الله! كيف الرأي أصبح الآن ديناً؟! ولهذا يحذر الإنسان أن يكون لديه شبهة فيأتي أحد يجادله فيصر عليها فيجعلها مبدأً وعقيدة, فيكتب هذا ويكتب هذا فتصبح مذاهب لهم, وكانت أول الأمر آراء مع أنه كان يمكن أن يرجع هذا ويرجع هذا وينتهي الموضوع ببساطة, لكن سبحان الله! النفوس إذا اشتعلت واشتدت وجاء الشيطان وجعل فيها الكبر والغطرسة، فإنها ترفع رأسها حتى ترى الرأي ديناً! نسأل الله العفو والعافية.
فهم قالوا: كيف يكون مؤمناً وهو يرتكب الفواحش، وكيف نقول: هو كافر وهو لم يخرج من الدين؟ إذاً نجعله بين هذه وتلك.
الخلاف بين المعتزلة والخوارج في مرتكب الكبيرة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى