تفسير : وَاللهُ يَعلَمُ وَأنتُمْ لا تَعلَمُونَ / العلم في القرآن الكريم

(وَاللهُ يَعلَمُ وَأنتُمْ لا تَعلَمُونَ)

قال تعالى: (وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئَاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئَاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ)
ما أجملَ أنْ تضع هذه الآية نصب عينيك عندما تواجه أمراً تكرهه، فأنتَ لا تدري أين الخير هل هو فيما تحب أو فيما تكره، فلا تنظر إلى ظاهر الأمور وتغفل عمَّا تنطوي عليه من الحِكَم والفوائد.

(وَاللهُ يَعلَمُ وَأنتُمْ لا تَعلَمُونَ)
ولَكَ في قصة الخَضِر مع موسى عليهما السلام عبرةٌ، فانظر كيف كان الخضر يعمل أعمالاً يحسبها موسى عليه الصلاة والسلام شراً فيكلمه فيها، ثم بعد أن يبيِّن له حقيقة الأمر وملابسات الموقف عرف أنَّ ما فعله الخضر هو الخير والصواب؛ وهكذا في حياتك حينما تُفَاجأ بما لا تحب وما لا تريد تذكَّر قصة الخضر مع موسى عليهما السلام، واعلم أن الله أعلم بما يصلحك وهو أحكم الحاكمين، وتذكر في حياتك كم هي الأمور التي كنت تحسبها شراً ثم تبين لك أنها خير ومصلحة لك.
وها هو نبيُّ الله يوسف عليه الصلاة والسلام، كاد له إخوته كيداً وأرادوا أن يخفضوا من شأنه ومكانته، فجَعَلَ اللهُ كيدَهم رِفْعَةً ليوسف عليه السلام وجعله عزيز مصر، فإرادة الله غالبة وهي فوق إرادة الكل، وصَدَقَ الله: (فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئَاً وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْرَاً كَثِيرَاً).
فلا مكان في الوجود للمصادفة العمياء، فكل ما يحصل هو بإرادة الله وحكمته وتقديره، قال سبحانه: (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ)، وقال: (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً)، فكل أمر له حكمة. ولكن هذه الحكمة قد تغيب عن الناس ولا يدركونها.

ثم إنَّ الدنيا دارُ ابتلاء واختبار للعباد، قال تعالى: (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالخَيْرِ فِتْنَةً وَإلَينَا تُرجَعُونَ)، فالصحة والمرض، والغنى والفقر، وكل ما في هذه الدنيا من خير أو شر، هو امتحان للناس، فعطاء الله ومنعُه في الدنيا لا يستدل به على رضوان الله عن العبد أو سخطه ، فهو يعطي الصالح والطالح، ويمنع الصالح والطالح؛ إنه يعطي ليبتلي، ويمنع ليبتلي، والمعول عليه هو: نتيجة الابتلاء، فمن صبر على الضَرَّاء وشكر عند السرَّاء، فهو من المفلحين.
قال عبد الملك بن أبجر: ما من الناس إلا مبتلى بعافية لينظر كيف شكره، أو مبتلى ببلية لينظر كيف صبره.
فما على المؤمن إلا أنْ يأخذ بالأسباب ثم يطمئن إلى حكمة الله وعدله ورحمته، (وَاللهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ).

(وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ)
تأملات في اسم الله الحكيم
الحكيم: الذي يضع الأمور في مواضعها ويوقعها مواقعها, ولا يأمر إلا بما فيه الخير ولا ينهى إلا عما فيه الشر, ولا يعذب إلا من استحق, ولا يقدر إلا ما فيه حكمة وهدف, فأفعاله سديدة وصنعه متقن, فلا يقدِّر شيئاً عبثاً, ولا يفعل لغير حكمة, بل كل ذلك بحكمة وعلم, وإن غاب عن الخلائق.
, قال ابن القيم: الله سبحانه يحب أن يشكر, ولذا فاوت بين عباده في صفاتهم الظاهرة والباطنة في خلقهم وأخلاقهم وأديانهم وأرزاقهم ومعايشهم وآجالهم فإذا رأى المعافى المبتلى والغنيُ الفقير والمؤمنُ الكافرَ عظُم شكره لله وعرف قدر نعمته عليه وما فضله به على غيره فازداد شكرا وخضوعا واعترافا بالنعمة, فالضد يظهر حسنه الضد، وبضدها تتبين الأشياء، ولولا خَلق القبيح لما عرفت فضيلة الجمال والحسن ولولا خَلقُ الظلام لما عرفت فضيلة النور ولولا خلق أنواع البلاء لما عرف قدر العافية ولولا الجحيم لما عرف قدر الجنة ولو جعل الله سبحانه النهار سرمدا لما عرف قدره ولو جعل الليل سرمدا لما عرف قدره وأعرف الناس بقدر النعمة من ذاق البلاء.
وإيماننا بأن الله حكيم يجعلنا نوقن بأن له الحكمةَ البالغة في أقداره وقضائه, إما في الحال أو في الآجل والمآل, ولربما كره البعض بعض القدر, وتتجلى الأمور ويعلم حينها أن ما قدّره الله هو الخير, وقد قال الله { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) قال صاحب الظلال: إنه من يدري فلعل وراء المكروه خيرا, ووراء المحبوب شرا, والعليم بالغايات البعيدة ، المطلع على العواقب المستورة هو الذي يعلم وحده, حيث لا يعلم الناس شيئاً .
ولأجل هذا فقد كان الأنبياء والصالحون يسلّمون لله في قضائه لعلمه بحكمته, ويتذكرون عند الملمّات اسم الحكيم, أولم يقل يعقوب حين علم بحجز ابنه الثاني { عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ
فسلِّم الأمر لمولاك, وارض بتقديره, وأيقن بحكمته, فلن يقدر إلا الخير, ولن يأمر إلا بالأصلح, ولن ينهى إلى عما يضر, وله الحكمة البالغة والقدرة الباهرة, استغفر الله

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى