بحث التفسير بمكتشفات العلم التجريبي بين المؤيدين والمعارضين

ضوابط للتفسير بمكتشفات العلم التجريبي
من خلال الآراء والمذاهب في قبول تفسير القرآن الكريم بمكتشفات العلم التجريبي أو رفضه تكونت لدى عدد من الباحثين ضوابط وشرائط لا بد من مراعاتها والالتفات إِليها والعناية بها عند التعرض لتفسير بعض الآيات القرآنية من وجهة النظر العلمية التجريبية. من أظهر وأشهر هذه الضوابط.
أولا: تفهم مهمة القرآن الأساسية:
فالقرآن الكريم كتاب هداية للبشرية يهديها إِلى باريها ويبين لها الصراط المستقيم الذي يجب أن تسير عليه لتسعد في دنياها وأخراها.
{إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا}
.
فقد جاء القرآن الكريم ليبين للناس مهمتهم التي خلقوا لأجلها وكلفوا بها في هذه الحياة، وهي عبادة الله جل وعلا وحده: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ. مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ. إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ}[2].
وقد سلك القرآن الكريم كل المسالك والسبل من فطرية وعقلية ليبين لهم هذا الحق ويحملهم عليه ويدعوهم إِليه. فذكّر الإِنسان بأصله. ودعاه إِلى التفكر في نفسه {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ}
.
ونبهه إِلى ما حوله في هذه الأرض التي تقله والسماء التي تظله. فبسط له الأرض ويسرها وأودع فيها وعليها ما ينفع الإِنسان ويدل على قدرة الخالق وعظمته ورحمته. إِلى غير ذلك من خلق الله وعظيم آياته التي تدل عليه وتدعو إِليه. فيتعين أن تبقى الدراسات القرآنية المتعلقة بالآيات الكونية في حدود هذا الغرض ومحققة له؛ لأن استغلال هذه الموجودات والاستفادة المادية منها فقط دون الاهتداء بها إِنما هو منهج جاهل، جاحد، ضال، لأن هذه الآيات الموجودة، وهذه العظمة القائمة، والدقة المتناهية في هذا الخلق بأرضه وسمائه، ببحاره ومجراته، بحيوانه ونباته، بإِنسانه وكل أجزائه إِنما هي شواهدُ قواطع، وبراهين سواطع على وجود الله جل وعلا وقدرته وعظمته وأنه الإِله الواحد الأحد الفرد الصمد الذي يجب أن تصرف العبادة له وحده.
فالإِنسان الذي يشهد ويشاهد كل هذه المخلوقات والمشاهد ثم لا يهتدي إِنما هو أضل من حمار أهله. وتأمل قَوْله تَعَالَى وكفى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ}.

ثانيًا: الاعتدال في التناول دون إِفراط أو تفريط:
بعد أن تقرر أن القرآن الكريم كتاب هداية وأن فيه الكثير من الآيات البينات التي تَذْكر الكون وتذكِّر الإِنسان بما فيه من دقائق وحقائق، عليه أن يلتفت إِليها ويستفيد منها ويستدل بها. ولا يصح إِهمالها أو الإِعراض عنها. بل ينبغي أن تتناول في هذا النطاق دون إِغراق في بحث خصائصها ودقائقها لأن هذا المسلك يحوّل التفاسير إِلى كتب اختصاص لهذه العلوم. ويحول دون تأثير القرآن في النفوس وإِنارته للقلوب. وهدايته للعقول. وهو الهدف الأساسي له ولعل مسلك الإِفراط في التناول وعدم الاعتدال فيه. وحشو التفاسير بتلك التفاصيل التي فيها ما يصح وما لا يصح كان أحد أسباب رفض هذا النوع من التفسير.
وكما ننتقد حشو التفاسير بالإِسرائيليات، والاستطرادات النحوية، والعقدية وخلافها. فهذا من ذاك.
فالقرآن الكريم إِنما يشير إِلى مجمل الحقيقة دون تفسير وتفصيل. وفي هذه الإِشارة عظيم الدلالة على أن هذا القرآن تنزيل من حكيم حميد. وليس من عند بشر. إِذ لو كان من عند غير الله لوجد الناس فيه اختلافًا كثيرًا وكبيرًا.

ثالثًا: الاقتصار على الحقائق:
ينبغي الاقتصار في تفسير آيات القرآن الكريم على الحقائق العلمية القطعية اليقينية. دون النظريات والفرضيات العلمية ؛ لأن النظريات قابلة للتغير والتبدل. فربطها بالآيات وتفسير الآيات بها. ثم تغير التفسير بتغير النظرية يوقع في بعض النفوس ظلالا من الشك والريب. ما أغنانا عن ذلك.

رابعًا: اليقين باستحالة التعارض الصريح بين حقائق القرآن الكريم والحقائق العلمية:
ينبغي أن يكون في عقيدة ويقين كل مسلم استحالة التعارض والتصادم بين صريح دلالة آية قرآنية، وحقيقة علمية قطعية يقينية على الرغم من تقدم العلوم وكثرة حقائقها وقواعدها على امتداد الزمان واختلاف المكان وهذا الأمر من المسلمات البدهيات في عقيدة المسلم. وهذا من أظهر وأبهر وجوه الإِعجاز العلمي في القرآن الكريم.
ومرد ذلك انسجام العقائد في الإِسلام ؛ لأن الحقائق القرآنية، والحقائق العلمية تخرج من مشكاة واحدة، وتصدر من مصدر واحد، فهذا الكون خلق الله، وهذا القرآن كلام الله.
ولن يخبر الله في كتابه بخلاف حقائق خلقه فهو خالقها بهيئاتها وحقائقها ودقائقها لا يعزب عن علمه منها شيء. {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}[5] ؟ !
{قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا}[6] وما قد يلوث في بعض الأذهان من توهم بوجود تناقض وتعارض إِنما هو سوء فهم لإِحدى الحقيقتين القرآنية أو العلمية ؛ لأن التعارض والتصادم بينهما مستحيل قطعًا. فقد تكون الآية غير صريحة في دلالتها فالوهم في سوء الفهم، أو أن تكون المسألة نظرية علمية لا حقيقة علمية.

خامسًا: الاستفادة من مزايا التعبير القرآني الكريم:
يمتاز الأسلوب القرآني الكريم بمزايا باهرة قاهرة من أظهرها مرونة أسلوبه، وخصوصية كلماته، وسعة دلالة مفرداته، ودقة عباراته، ودقة العبارة لا تعني ضيق الدلالة، ولهذا كان القرآن الكريم حمّال وجوه. تتسع الآيات لوجوه من التأويل تكون معه آياته أوسع من أن تحصر في دلالة ضيقة ولا ينبغي أن يساء هذا الفهم لتحميل الآيات ما لا تحتمل ويستخرج منها ما لا تدل عليه.
إِذ إِنها سعة داخل دلالة الكلمات واستعمالاتها اللغوية الصحيحة وهذه الميزة تؤدي إِلى عدم حصر دلالة الآية على حقيقة علمية واحدة، فإِذا ما اتسعت دلالة الكلمة القرآنية لغويًّا، وأيدت حقيقة علمية إِحدى هذه الدلالات فإِنه يؤخذ بها لكن ينبغي ألا يكون على سبيل الحصر والقصر عليها، ويحكم ببطلان ما عداها من الدلالات الأخرى للمفردة القرآنية فليس ببعيد أن تكون الحقيقة العلمية المكتشفة إِحدى دلالات الآية القرآنية لا كل دلالتها فلا نتحجر في دلالة الآية واسعًا.

فقد علل المتقدمون تخصيص ذكر البنان في قَوْله تَعَالَى: {بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ} بتعليل صحيح سليم. وكشف العلم التجريبي المتأخر عن خاصية لِلْبنان كانت مجهولة فتكشف شيء من سر تخصيصه بالذكر، وقد تكشف قوادم الأيام ما لا يعرف الآن. وهكذا باقي الآيات
فسبحان الذي خلق فسوى. والذي قدر فهدى.
رأيٌ في الموضوع:
لا شك في إِعجاز القرآن الكريم من كل الوجوه. وهناك تفريق بين الإِعجاز العلمي في القرآن الكريم، وما اشتهر بالتفسير العلمي للقرآن فالأول متفق عليه لا إِنكار له ؛ لأنه لن يكون هناك تعارض بين حقيقة قرآنية وحقيقة علمية قطعية ؛ لأنهما من مشكاة واحدة، فالكون خلق الله. والقرآن كلام الله.
لكن وقع الخلاف في الثاني وهو التفسير العلمي للقرآن، وذلك بأن نأتي بمسائل العلم التجريبي فنفسر بها دلالة الآيات كما سبق بيانه.
والملاحظ أن مسلمي هذا العصر يسترخون في الدرس والبحث. ويستلقون على آرائكهم فإِذا ما ظهرت مسألة علمية وخرجت من الفرضية النظرية لتدخل حيز الحقائق العلمية سارع بعضهم للقول بأننا نعرفها قبل ذلك، وأن القرآن الكريم أشار إِليها. وقد تكون هذه الإِشارة القرآنية إِليها قريبة أو بعيدة.
والمسلك الأمثل والأنفع أن تكون للمسلمين مراكز أبحاث ودراسات تنكب على الموضوعات بعمق وأناة وأن تكون إِشارات القرآن العلمية – وكذلك صريح وصحيح السنة النبوية – هي طليعة ما يدرس ويبحث.
وهذا المسلك والمنهج يجعلنا نظفر بالنتيجة سلفًا في بعض الحالات وتبقى معرفة الأسرار والتفصيلات. والتي ينبغي أن تكون هي محل الدراسة والبحث.
وبضرب المثال يتضح المقال:
1 – في قَوْله تَعَالَى: {بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ}[9] دلالة على تميز البنان بشيء أو أشياء ولهذا خص بالذكر، هذه هي النتيجة ويبقى التساؤل عن هذه الميزة. فقد عرفنا شيئًا وباستمرار البحث قد نعرف أشياء.
2 – قال جل وعلا عن النحل وما يخرج منه من عسل {يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ}[10]
فالآية صريحة في تقرير حقيقة أن في العسل شفاء للناس. فكان المفروض في المسلمين أن تنصب دراساتهم، وينكب الباحثون منهم في معرفة أسرار وتفصيل ذلك، وبأيديهم النتيجة المقطوع بها. فتنصرف الدراسات والأبحاث لمعرفة أي أنواع الأمراض التي يشفيها العسل، وأسلوب التناول والاستعمال وأثر غذاء النحل واختلاف ألوانه في الشفاء إِلى غير ذلك من المسائل والتفصيلات المتعلقة بهذا. وهكذا في آيات كثيرة أخرى.
وفي الحديث الصحيح: “الْكَمْأَةُ مِنَ الْمَنِّ، وَمَاؤُهَا شِفَاءٌ لِلْعَيْنِ”[11].
فهذا الحديث صحيح في سنده. صريح في دلالته. مقطوع بنتيجته لكن هل أجرت مراكز أبحاثنا ما يكفي من الدراسات للتعرف على خصائص هذا الماء ولأي الأدواء يكون فيه الشفاء ؟
فلماذا يتأخر المسلمون عن مثل هذه الدراسات حتى إِذا ظهرت في غرب أو شرق سارعنا إِلى القول بأن هذا عندنا مذكور في كتاب ربنا وسنة نبينا. فأين كنا ؟.

[1]سورة الإسراء / 9
[2]سورة الذاريات / 56 – 58
[3]سورة الذاريات / 21
[4]سورة الأعراف / 179
[5]سورة الملك / 14
[6]سورة الفرقان / 6
[7]سورة القيامة / 4
[8]انظر: مباحث في إِعجاز القرآن لدكتور مصطفى مسلم (152 – 156).
[9]سورة القيامة / 4
[10]سورة النحل / 69
[11]أخرجه الترمذي في سننه، كتاب الطب، باب ما جاء في الكمأة والعجوة (4 / 401) وقال عنه: هذا حديث حسن صحيح

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى