المرور على الصّراط

بعد الفراغ من الحساب والقصاص والميزان وظُهور النَّتائج ، لا يبقى إلاَّ الجزاء ، إمَّا بالجنَّة وإمَّا بالنَّار . لكنَّ الله تعالى شاء ألاَّ يَكُون هناك طريقٌ للوصول إلى الجنَّة إلاَّ بالمرُور على الصّراط الذي نُصِبَ فوق جهنَّم . وهذا الصّراط هو عبارةٌ عن جِسْرٍ شديد الظُّلمة ، على جانِبَيْه خطاطيف وكلاليب، يَمرُّ فوقه النَّاس .

فإمَّا أن يسقُطَ العبدُ مُباشرةً في النَّار ، تتخطَّفُه المخاطيف ، وإمَّا أن يجتاز مخدوشًا ثمَّ يَدخُل الجنَّة ، وإمَّا أن يجتاز سالِمًا ثمَّ يدخُل الجنَّة ! يقول تعالى : { وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا 71 ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا 72 } (19- مريم 71-72) .

قال بعضُ العُلَماء : كلُّ النَّاس سَيَرِدُون النَّار، لا مفَرَّ من ذلك ! فأمَّا الذين ماتُوا على الكُفْر أو الشّرْك، فيَدْخُلُونها حَتْمًا خالدين فيها . وأمَّا الذين آمَنُوا بِما جاء به نَبيُّ زمانهم وماتُوا على ذلك ، فيَمُرُّون على الصّراط فوق جهنَّم ، ويَكُونُون بذلكَ قد وَردُوها مِن سَمائِها . فَمنهُم مَن يَسقُطُ فيها ، ومنهم مَن يَعْبُرُ بِمَشَقَّة ثمَّ يدخُلُ الجنَّة ، ومنهم مَن يجتازُ كالبرق حتَّى يدخُل الجنَّة .

وقد روى الإمام أحمد في مُسْنَده عن عائشة رضي الله عنها ، قالَتْ : قلتُ : يا رسولَ الله ، هل يَذْكُرُ الحبيبُ حبيبَهُ يوم القيامة ؟
قال : يا عائشة ، أمَّا عند ثلاثٍ ، فلا :

– أمَّا عند الميزان ، حتَّى يَثْقُلَ أو يَخِفَّ ، فلا .
– وأمَّا عند تَطايُر الكُتُب ، فإمَّا أن يُعْطَى بِيَمينه أو يُعْطَى بِشِمالِه ، فلا .
– وحينَ يَخْرُجُ عُنُقٌ من النَّار فَيَنْطَوي عليهم ويَتَغَيَّظُ عليهم ، ويقولُ ذلك العُنُق : وُكّلْتُ بثلاثة : وُكّلْتُ بِمَن ادَّعَى مع الله إلَهًا آخَر ، ووُكّلْتُ بِمَن لا يُؤمِنُ بِيَوم الحساب ، ووُكّلْتُ بكُلّ جَبَّار عنيد . فَيَنطوي عليهم ويَرمي بهم في غَمَراتِ جَهَنَّم .

ولِجَهَنَّم جِسْرٌ (وهو الصّراط) أدَقّ من الشَّعْر وأَحَدّ من السَّيف ، عليه كلاليب وحسك (أي أشواك) ، يأخُذُون مَن شاء الله . والنَّاسُ عليه كالطَّرْف ، وكالبَرق ، وكالرّيح ، وكأجاويد الخيل والرّكاب . والملائكَةُ (وفي روايَات أخرى : والأنبياء) يقُولُون : رَبّ سَلّمْ ، رَبّ سَلّمْ . فَنَاجٍ مُسَلَّم ، ومَخْدُوش مُسَلَّم ، ومُكَوَّر (أو مَكْبُوب) في النَّار على وَجْهه . (مسند الإمام أحمد بن حنبل – الجزء 6 – ص 110 – رقم الحديث 24837) .

فَالكُفَّارُ والمشركُون إذًا ، إمَّا كُلُّهم وإمَّا بعضُهم ، لا يَمُرُّون فوق الصّراط ، وإنَّما يَختطِفُهم عُنُقٌ من النَّار قبل ذلك ، فيَسبِق بهم قبل غيرهم إلى ظُلُمات جهنَّم خالدين فيها . ومِن هؤلاء : المسيحيّون الذين عَبَدُوا المسيح عليه السَّلام . ومِن هؤلاء أيضًا : كلُّ مَن لَم يدخُل في الإسلام بعد نُبُوَّة محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم .
وإذا كان بعضُ هؤلاء سَيَمُرُّون فوق الصّراط ، فإنَّهم ما أن يَضَعُوا أوَّل قَدمِهم عليه حتَّى يَسقُطُوا مباشرةً في جهنَّم .

أمَّا الذين آمَنُوا بما جاء به نَبيُّ زمانهم وماتُوا على دين الله ، فهؤلاء فيهم التَّقيُّ وفيهم ضعيف الإيمان ، فَيُجْمَعُونَ في مكانٍ مُظْلِمٍ قَبْل الصّراط ، ثمَّ تُوَزَّعُ عليهم أنوارٌ بِحَسَب إيمان كُلّ عبدٍ وعَمَله . فَمِنْهُم مَن يُعطَى نُورًا مثل الجبال ، ومِنْهُم مَنْ يكُون نُورُه على قَدْر قامَته ، ومِنْهُم مَن لا يتجاوزُ نورُهُ إصبع قدَمه ، كلٌّ على قدْر عَمَلِه في الدُّنيا . ثمَّ يُؤمَرون بالمرور فوق الصّراط .

وقد روى الحاكم في مُستَدركه حديثًا طويلاً عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، أنَّ رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال : … ثمَّ يُؤمَرُون (أي المؤمنون) ، فَيَرفَعُون رُؤُوسَهم ، فَيُعْطَوْن نُورَهُم على قَدْر أعمالِهم . فَمِنْهُم مَن يُعطى نُورَه مثلَ الجبَل بين يَديْه ، ومِنْهُم مَن يُعطَى نُورَهُ دون ذلك ، ومِنْهُم مَن يُعطَى نُورَه مثل النَّخلة بِيَمينه ، ومِنْهُم مَن يُعْطَى دون ذلك ، حتَّى يكون آخر ذلك يُعطَى نُورَه على إبهام قَدَمه ، يُضيءُ مَرَّة ويَطفأُ مَرَّة ، فإذا أضاء قدَّم قَدَمه، وإذا طَفئ قام .

فَيَمُرُّون على الصّراط ، والصّراطُ كَحَدّ السَّيف ، دَحْضٌ مَزَلَّة (أي تَزَلُّ عليه الأقدام ولا تَثْبُت) . فيُقال : انْجُوا على قَدْر نُورِكُم . فَمِنْهُم مَن يَمُرُّ كانْقِضَاض الكوكب ، ومِنْهُم مَن يَمُرُّ كالطّرْف (أي كالخيل)، ومِنْهُم مَن يَمُرُّ كالرّيح، ومِنْهُم مَن يَمُرُّ كَشَدّ الرَّجُل يَرْمُلُ رَمْلاً . فَيَمُرُّون على قَدْر أعْمالِهم، حتَّى يَمُرُّ الذي نُورُه على إبْهام قَدَمه يَجُرُّ يَدًا وتَعْلَقُ يَدٌ ، ويَجُرُّ رِجْلاً وتَعْلَقُ رِجْلٌ ، فَتُصِيبُ جَوانِبَهُ النَّار . فيَخْلُصُون ، فإذا خَلَصُوا قالُوا : الحمدُ لِلَّه الذي نَجَّانَا مِنْكِ بعد إذ رأيْنَاكِ ، فقد أعطانَا اللهُ ما لَم يُعْطِ أحدًا ! (المستدرك على الصّحيحين – الجزء 4 – ص 632 – رقم الحديث 8751) .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى