اللهم إني استغفرك وأتوب إليك .. بقلم: مبارك الكوده

السودان اليوم

كسلا بلاشك مدينة ( فنانة ) وجميلة بمعني الكلمة، أرضعتني من ثديها رضعاتٍ مشبعات جعلنني أتذوق الفن بصورة مطبوعة لا زالت تلازمني، كما أضافت لي مهنة التدريس شيئاً منه فهي بلا شك أيضا مهنة ( فنانه ). وبثنائية كسلا الوريفة ومهنية التعليم تكونت شخصيتي وكان من الممكن أن أحترف الفن، فقد كنت مُولعاً بالرسم والخط والعزف والغناء في جلسات السمر الخاصة مع الأصدقاء الأنقياء الأتقياء.

ويبدو لى أن مدخلي للدين بعد صراع طويل مع الشك كان من هذا الباب، فقد جُبِلت الفطرة علي الجمال ولذلك فهي تواقة للمطلق، فإن الله جميلٌ يحب الجمال، ووجدتُ نفسي بعد زوال شئ من الشك بين خيارين لا ثالث لهما، إما مستنقع التراث وبما فيه من ظلمات، وأما الكفر البواح، فأخترت التراث بما عليه والذي أوردني من بعد ذلك مورداً صعباً بنصوصه وتفسيراته، وعُدتُ به غير متصالحاً مع نفسي مما دعاني لتولي كِبَرَ حدثٍ كنت أظنه من الدين.

أذكر في ليلة من ليالي رمضان وربما في منتصف الثمانينات، خرج علينا الإعلام بملصقاته وبمكبرات صوته معلناً عن قيام حفلٍ غنائي لفنانة راقصة بسينما كسلا الوطنية، ومثل هذه القوافل الفنية كانت متعارفٌ عليها في كل بقاع السودان آنذاك خاصة في شهر رمضان المعظم، ولا تمثل خروجاً عن المعروف والمألوف عند عامة الناس، يرتادها الزوج وزوجته وأبناؤه من البنين والبنات بعد صلاة التراويح، وليست هنالك أي شبهة اختلاط، فالنساء لا يجلسن الّا في مقاعد الدرجة الأولي حيث خصوصية الأسر.

قررنا كمجموعة من الإسلاميين أن نفسد هذا الحفل بحجة أن العشر الأواخر من رمضان لا يجوز فيهن مثل هذا المنكر، فكان أن أديت صلاة الظهر بمسجد كسلا الكبير في اليوم المعين للحفل، وخاطبت المصلين بعد الصلاة مستدعياً النصوص من القران والسنة ومستغلاً عاطفة الدين محرضاً لإيقاف هذا العبث بدين الله، واستجاب المصلون وخرجوا مغاضبين في تظاهرة الي مكتب حاكم الإقليم الشرقي وبعد ان التقيناه طلب منا أن نكتب له عريضةً توضح المطلوب واستجبنا لطلبه في الحين ووصي الحاكم فيها جهات الإختصاص إتخاذ ما تراه مناسباً وفقاً لنصوص مواد القانون.

لم تعجبني توصية الحاكم هذه فصعدتُ في إحدي سيارات الحكومة وخاطبت التظاهرة من علٍ مهدداً بأنه في حالة عدم استجابة جهات الاختصاص لطلبنا هذا فموعدنا معهم مساء اليوم أمام السينما الوطنية لإزالة هذا المنكر بأيدينا، وقبل موعد الحفل بقليل تم اعتقالي تحوطاً بقرارٍ من لجنة أمن الإقليم، إلا أن الشباب قد نظموا أنفسهم وتوجهوا صوب الحفل، وبمجرد أن بدأ الحفل رمي المتظاهرون من الخارج من هم بالداخل بالحجارة بصورة كثيفة، فما كان من الشرطة الّا أن أنهت الحفل واتخذت من التدابير الأمنية ما تحفظ به الأرواح والممتلكات.

ومن باب المراجعات الفكرية العقدية سالت نفسي سؤالا جوهرياً! هل من حقي أو من حقنا أن نفعل ذلك؟ وهل من مسوغ أنساني أو شرعي أو أخلاقي يبيح لفرد أو جماعة أو نظام أن يفرض قناعاته ومعتقداته الشخصية باسم الدين أو أي أيدلوجية أخري علي فرد أو جماعة تمارس حقها الإنساني في الحياة من خلال معتقداتها وأعرافها وتقاليدها التي ارتضتها لنفسها مسلمة كانت أو كافرة؟ لا اعتقد ذلك!! وفي تقديري أن القوانين في الاسلام تُسن لحماية أعراف المجتمع وقناعاته اللذان يحققان له السلم والأمن الاجتماعي، ولا تُسن القوانين لتفرض أيدلوجية معينة ولو كانت ديناً سماوياً، والاستصحاب كما نعلم قاعدة أصولية تعني أن هنالك من الأعراف ما يخالف الدين ولكنها أصبحت ثابتاً اجتماعياً يصعب تجاوزه كالرق مثلا أو شرب الخمر ولعب الميسر وضرب النساء، ولذلك نجد أن التشريع قد سكت عن هذه الثوابت الاجتماعية واستصحبها إبتداءً ليتخلي المسلمون عنها طواعية بعاملي الزمن والوعي، فقد أُريقت الخمر بعد أن علم الله أن محتمع المدينة قد ادرك ضررها فجاء القرآن مُتزامناً مع مرحلة( انتهينا يا رسول ) كما ترك ( ص ) للمجتمع الإنساني ان يحرم علي نفسه الرق واستعباد المرأة وضربها بعد ان يكتمل وعيه بضرورة ذلك، فلذلك أقول لا يجوز شرعاً ولا أخلاقاً ان يلزمني كائن من كان بما يري ( هو ) طالما أنني التزم ما تعارف عليه مجتمعي من أعراف، وهذا ما اطمأنت اليه نفسي واللهم أني استغفرك وأتوب إليك مما سبق

مبارك الكوده

١٦/ نوفمبر/ ٢٠١٨

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى