الشماسة.. تفاصيل عوالم مدهشة….

السودان اليوم:

لم يكن طريقي مفروشاً بالورود، وأنا ألج إلى عالم الشماسة، فتجربتي هذه المرة تختلف عن التجربة السابقة التي كانت عبر وسيط لصيق بهذا العالم الغريب. في هذه المرة وجدت صعوبات كبيرة في أن أستنطق أياً منهم، لذا فضلت أن أراقبهم من على البعد حتى تسنح لي الفرصة أن ألتقي بأحد منهم، وذلك لصعوبة التعامل معهم وبعد جهد جهيد حانت الفرصة أن ألتقي ببعضهم فخرجت بهذه الحصيلة .

1

دنيال.. المعاناة تمشي على ساقين

الأقدار وحدها هيأت لي لقاءه وجدته ملقياً على الأرض كجثة هامدة، اقتربت منه في حذر، هالني منظر جسده النحيل، رمقني بنظرة استغراب، فهمت من خلالها الكثير من الأمور وقبل أن يتفوه بكلمة واحدة أطلقت في وجهه ابتسامة أعادت إليه شيئاً من الاطمئنان، فجلست بجواره لأتعرف إليه عن قرب.

اسمي دنيال، هكذا حدثني وأخبرني أنه يقيم أمام بيت الإمام المهدي لأكثر من عشر سنوات يستظل بظلال شجرة الجميز الرابضة أمام البوابة، يلتحف الأرض ويجعل من السماء غطاء يعيش ما بين الأمل والرجاء، عاجز عن الحركة بعد أن أصيب بشلل تام، أنهكته عوامل الطبيعة بفصولها المختلفة، اكتوى بلهيب الشمس في صيف قائظ وارتجف من شدة البرد وزمهرير الشتاء، أنهكته الليالي الممطرة في وحشة مظلمة بلا أنيس .

روى حكايته مع التشرد، والتي امتدت لعشرين عاماً، تجول فيها في كل البقاع حتي طاب له المقام أمام بيت الإمام، كان دننيال في شبابه شعلة من الحماس والنشاط، اشتغل في إحدى المؤسسات البيطرية، ويتمتع بقدر عال من الاحترام والتقدير قبل أن يصاب بحساسية مزمنه نتيجة لاستخدامه المبيدات بطريقة غير صحيحة، واستمرت معاناته مع المرض، ولأنه قليل الحيلة، ولا يملك ما يكفيه لمواصلة العلاج، ترك الأمور تمضي كيفما تشاء، فأصيب بشلل نصفي أقعده عن الحركة والعمل.

وجد نفسه بلا مأوى وبلا عمل، ليهيم في الشوارع، سألته عن حياته كيف تمضي، سكت برهة قبل أن تطفر دمعة من عينيه، أعيش مثلي مثل الطيور، رزقي على الله، أمر بلحظات يمكن فيها لا ـتناول طعامي ليومين، أعيش على إعانات المحسنين وعابري الطريق، غير أنه عاد وأكد أنه لا يمد يده لأحد فيقضي يومه بين الصبر والتحمل والأمل في أن يفتح الله له باباً للرزق.

2

قبر الحجاز تحول إلى مأوى للمشردين

في قلب أم درمان وتحديداً موقف الشهداء، تقف العديد من الصور والمشاهد التي تدمي القلوب أطفال يفترشون الأرض تتفاوت أعمارهم يقتاتون من فتات المطاعم ينظر إليهم الجميع باشمئزاز أطفال بوجوه شاحبة غابت نضارتها.. وتراجع ألقها وفقد فيها الإقبال على الحياة وروعتها، عيونهم غائرة وأجسامهم هزيلة ونفوسهم حائرة هدها الضياع وأتعبها الجوع، لتموت في أعماقهم كل تلك المعاني والأماني الجميلة في الحلم بغد أفضل، قد أضحت أحلامهم موقوفة عن التنفيذ بعدما اقتلعهم القدر من أحضان أسرهم الدافئة ليقذف بهم في عوالم مجهولة المعالم، وتتحول حياتهم إلى جحيم يكتنفها الغموض ويطبعها اليأس. ويسمها الحرمان..

الكلام هنا عن إمبراطورية الشماسة الذين صارت أعدادهم في تزايد يوماً بعد يوم، فهم إفراز حقيقي لواقع مؤلم ومرير، حاولت الاقتراب منهم لكنني تحفظت في بادئ الأمر، لأن الاقتراب من عوالمهم محفوف بالمخاطر، فاكتفيت بمراقبتهم من بعيد عسى ولعل اقتنص الفرصة للولوج إلى عوالمهم، فالتحديثات التي طرأت على موقف الشهداء مثلت طفرة حقيقية وتحولاً كبيراً في حياة المشردين، إذ بات قبر الحجاز الموجود بقلب الموقف ببنايته الجميلة مأوى للمشردين يتفيأون ظلاله ويصعدون عبر المدرج إلى سطحه ويمارسون حياتهم الطبيعية، وعندما يحين المساء يفترشون الأرض ويحتضنون صغارهم في مشهد إنساني، وفي الصباح الباكر يغسلون ملابسهم ويضعونها فوق سطح القبر لتداعب أشعة الشمس.

هذا السيناريو يتكرر كل يوم، وعلي مرأى من ومسمع من الناس ومن العادات التي يمارسونها ليلاً وهم تحت تأثير السلسيون الغناء والرقص، يرددون الأغنيات التراثية في تناغم كورالي، ومع إجادة تامة للرقص وسط تشجيع المارة ومن أشهر الأغنيات التي يرددونها الليل برد يا شمة.

3

معاناة مع دخول فصل الشتاء

حياة المشردين تعتمد في الأساس على المجازفات، وبما أن موقف الشهداء يمثل نقطة تجمع تتراص على جنباته العديد من المطاعم، مما وفر للمشرين عددا مقدراً من الوجبات ممثلة في بقايا الأطعمة، لذا نجد أن السواد الأعظم منهم تمركز حول قبر الحجاز الذي مثل مأوى لهم ونقطة تجمع وانطلاق إلى كسب الرزق .

مع دخول فصل الشتاء، تضاعفت معاناة المشردين خاصة الأطفال الرضع الذين أصيبوا بأمراض مختلفة، والكثير من الحميات، وقد لاحظت أنهم يحتمون ببعضهن البعض من زمهرير الشتاء، وتجد أكثر من شخص ينامون تحت غطاء واحد وعقارب الساعة تشير إلى السابعة مساء، كنت أقف بالقرب من قبر الحجاز حيث يتجمع فيه مجموعة من الشماسة كل مشغول في عالمه، هنالك من كان يعمل وآخر يستنشق قطعة مليئة بالسليسيون كانوا في أعمار متفاوتة تتراوح ما بين الحادية عشرة إلى الثلاثين وقفت أمام ذلك القبر أتأمل كل من كان من حولي، مشاهد تدمي القلوب، طفلة رضيعة تحبو نحو كيس مملوء ببقايا الطعام (الكرته) تفوح منه رائحة نتنة، تحاول أن تتحسسه علها تجد ما تسد به جوعها ووالدتها نأت بنفسها في ركن قصي مغيبة عن الوعي تماماً بفعل السلسيون، الكل هناك يعتمد على نفسه، ويجازف لكي يعيش.

4

الراسطة.. حكاية فنان من قاع المدينة

بعد جهد جهيد، تمكنت من اقتحام عالم الشماسة وحالفني التوفيق أن ألتقي بأحدهم ويدعى الراسطة، شاب نحيف الجسم تبدو عليه علامات الإعياء وجدته يترنح وعيناه ينبعث منها الشرر محمرة كقطع من الجمر القى علي التحية، أخبرني من كان يقف بجانبه أنه فنان لا يضاهيه أحد سوى الدكتور، والدكتور هذا أحد رموز الشماسة المرموقين مسكون بالإبداع، ولكن صادف تواجدنا مغادرته إلى الخرطوم في مهمة غير معلومة، طفق الراسطة يحدثنا عن موهبته في فن الغناء، وأن لا أحد يضاهيه، ودعاني للاستماع إلى فنه في إحدى الخرابات التي تقع شرق الشهداء، ذهبنا وأشواقنا تتدفق كما الشلال لسماع ما يصنعه الراسطة من إبداع، وما إن شدا بإحدى أغنيات الحوت أيقنت ومن الوهلة الأولى أن الراسطة بالفعل مبدع حتى النخاع، ومعظم الأغنيات التي ترنم بها كانت تنم عن موهبة حقيقية ينقصها الرعاية والاهتمام.

ولأن العامل النفسي يعد المكون الأساسي للإبداع فمعظم أغنيات الراسطة كانت عبارة عن إسقاطات لكل ما يجيش بدواخله، وربما تكون تنفيساً لقلق داخلي ينخر في دواخله أو رفض لواقع أجبر أن يعيشه أو تعبير أن أحلاماً مؤجلة ما كان لها أن تتحقق في ظل واقع مرير، ونحن نتأمل إبداعات الراسطة، شاركنا المارة في الدخول إلى عالمه وهم ينظرون باندهاش، وكانت أعينهم تنطق بالعديد من التساؤلات كل هذا الإبداع يصدر عن هذا الشخص.

5

متوحدون وإنسانيون إلى حد بعيد

والاقتراب أكثر من عالمهم، يجعلك تكتشف صفات إنسانية نادرة رغم شراسة طباعهم، فهم متكافلون إلى حد بعيد يقتسمون اللقمة ويقفون مع بعضهم عندما تنزل عليهم المحن، وفي بعض الأحيان يتعاركون مع بعضهم البعض لأسباب تافهة، كأنهم لم يعيشوا في مكان واحد، ومعظم المشاحنات التي تنشب بينهم يكون سببها تعاطي السلسيون الذي يغيب وعيهم تماماً ويجعلهم يأتون بتصرفات لا يحسون بها وعندما يعودون إلى وعيهم تجدهم مع بعض كأن شيئاً لم يكن، تعامل الشماسة مع شخص خارج محيط مجتمعاتهم فيها الكثير من التحفظ، لأن الشخص الذي يأتي من الخارج يعتبرونه متعدياً لخصوصياتهم، وربما يجلب لهم الهوا، ويطلقون على كل من لا ينتمي إلى مجتمعاتهم (الفارات)، وإذا تعدى شخص بالخطأ على إمبراطوريتهم يهبون عليه هبة رجل واحد، وهم يرددون (الفارة دقس) لذا وضعت هذه النقطة في اعتباري وأنا اخترق تلك العوالم، فحاولت بقدر الإمكان أن أكون محل ثقتهم، وإذا ما كسبت هذه الثقة سأكمل مهمتي على أكمل وجه .

6.

احترام الكبير أمر واجب على كل فرد

أول ما لفت نظري في عالم الشماسة احترامهم للكبير وطاعته طاعة عمياء واحترامهم للقوانين التي تحكم إمبراطوريتهم، فالكل يدرك واجباته تماماً ويرضخ لتلك القوانين، وعلى سبيل المثال إذا قام أحدهم بعملية سرقة فالمسروقات تسلم للمعلم وهو بدوره يقرر تسليم الغنيمة بالشكل الذي يراه مناسباً، وفي هذا نقطة في غاية الأهمية الشماسة بطبيعتهم يحترمون العهود والمواثيق. قال لي أحد المشردين ويدعى آدم إن عربة أحد الأشخاص تعرضت للسرقة بالقرب من إمبراطورية الشماسة، فجن جنون الرجل فما كان منه إلا وأن ذهب إلى المعلم، وبعد عشر دقائق عادت له المسروقات مع اعتذار لطيف.

وللشماسة لغة تميزهم تعرف بالراندوك يتخاطبون بها وقد انتقلت هذه اللغة إلى الشباب بل وصلت مدرجات الجامعات وباتت هي اللغة المحببة وسط شباب اليوم، فهم يطلقون على الجنيه (الكلب) والقروش (الكنجالات) والمحبوبة (اللقوية) وغيرها من المصطلحات التي باتت شائعة بين عامة الناس.

7

أسعد.. تفاصيل حكاية مؤلمة

كانت عبارات المعلم أسعد فيها شيء من الغبن، أحسست ذلك من نبرات صوته لا يعرف شيئاً عن تاريخ ميلاده غير أنه ولد في الخرطوم، ولا يهمه الماضي ولا يعنيه المستقبل بل يقبض على زمام اللحظة الراهنة التي يعيشها بكل تفاصيلها، واللحظة عنده لا تقدر بثمن وقمة سعادته بحسب روايته لي أن يتناول وجبة سمك من الموردة، ثم يغتسل في البحر ويستلقي على شطه بعد أن يستنشق السلس ليسبح في خياله ويسافر في عوالم بعيدة لا يشقيه البحث عن رزق ولا يلهث وراء لقمة العيش إذا وجد سيأكل وإن لم يجد سيأتي الفرد بكيس المعلم محملاً ببقايا الأطعمة من الكوش والمطاعم.

الحياة عنده لحظة عابرة يجب أن تعاش بكل تفاصيلها، ويؤمن بأن الفرصة لا تأتي مرتين، فإذا هبت الرياح يجب اغتنامها على الفور، حواري مع المعلم أسعد مر بالعديد من المنعرجات تأتي لحظات يضحك فيها ملء شدقيه ولحظات يعترينا الصمت ونعجز فيها عن التعبير، غير أنني كنت مستمتعاً بالساعات التي قضيتها في عالمهم، تحدثنا فيها عن كل شيء، فقط تابعوني في الحلقة القادمة لأروي لكم ماذا قال لي (بيل) عن تلك العوالم المدهشة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى