الحركة الإسلامية السودانية: من حلقات التلاوة إلى الربا و(التلاف) .. بقلم: أحمد محمود أحمد

السودان اليوم

*مدخل للكتابة:*

يأتي هذا المقال على خلفية المؤتمر التاسع للحركة الإسلامية السودانية، والذي انعقد مؤخراً في العاصمة الخرطوم، والذي قُدرت تكلفته بأكثر من 100 مليار جنيه سوداني، وقد سبقه بقليل احتفالات قوات الدفاع الشعبي بمناسبة مرور 29 عاماً على تكوينها، وقد كلف ذلك الإحتفال الدولة السودانية مبالغ طائلة، لتكتمل دائرة إهدار المال العام بإقامة الدورة المدرسية في نيالا، والتي قُدرت تكلفتها بنحو 320 مليار جنيه سوداني، فقد قُدرت الكلفة الإجمالية لهذه المناسبات الثلاث بأكثر من 600 مليار جنيه سوداني.

وفي الجانب المقابل ما زال المواطن السوداني يقف في طوابير طويلة من أجل الخبز والمواد البترولية، والجنيه السوداني يتهاوى أمام الدولار ويفقد قيمته تماماً، فمن وراء ذلك كله؟

بالتأكيد وراءه الحركة الإسلامية والتي أطلق عليها هنا حركة (الربا والتلاف).

إذن لندخل على متن الكتابة لتجسيد هذا المثل السوداني المعروف، على واقع الحركة الإسلامية السودانية.

*الحركة الإسلامية والخروج المدمر:*

يقول الأستاذ عوض سيد علي قرشوم بأن (الحركة الإسلامية في السودان قد كانت، وفي بدايتها الأولى محصورة في المساجد، تؤدي دور الوعظ والإرشاد، وفي حلقات مسجدية تهدف إلى إعادة الإسلام إلى أصوله الأولي، وأن هذا الدور كان ينتهي في المساجد، ولا يتعداها إلى مناحي الحياة الأخرى، وهو نهج أقرب إلى طريقة أنصار السنة، الفرق بينهما هو فهم الحركة للإسلام، باعتباره منهجاً كاملاً للحياة، بينما اقتصر منهج أنصار السنة في التعليم والتثقيف والوعظ والإرشاد ومحاربة البدع. (الانتباهة).

هذا الحديث يعبر عن بداية الحركة في السودان، ويُلاحظ في هذا القول إن الحركة الإسلامية كانت تنظر إلى الإسلام باعتباره منهجا كاملاً للحياة، دون أن تطور أي رؤية لاحقة تمكن من إنزال ذلك التصور على أرض الواقع، واعتمدت هذه الحركة على القفزات والمناورات، إلى أن استطاعت الوصول إلى السلطة وعبر طرق محشودة بكل الأساليب الملتوية، سواء كان ذلك عبر التصالح مع الأنظمة الديكتاتورية، أو عبر التآمر على الأنظمة الديمقراطية، لتجد نفسها في السلطة دون أن يتوفر لديها التصور الذي يمكن أن يساعدها على التعامل مع سلطة الدولة، وقد اختفى المصحف، وبرز دور السيف من أجل تثبيت أركان النظام، وفي هذا الإطار فقد حصدت الحركة الإسلامية أرواحاً كثيرة، وارتكبت الكثير من الجرائم، والتي لا يمكن تبريرها بأي منطق ديني أو إنساني.

وهذا يدلل على أن الحركة الإسلامية قد خرجت للواقع دون أن تعي ما هو الواقع، وما هي طريقة التعاطي معه.

لقد خرجت الحركة الإسلامية من المسجد إلى الربا و(التلاف). والربا و(التلاف) يتصلان بمثل سوداني حاذق يقال للشخص الذي لا تعنيه المسؤولية الاجتماعية، ولا يستجيب لقيم الجماعة، ويمكن أن يفعل كل شيء، ومن أجل أي شيء، ولهذا يقال بأن ذلك الشخص (مارق للربا والتلاف)، والحركة الإسلامية بالفعل قد (مرقت) للربا و(التلاف)، وقد (لخبطت) السياسة السودانية، وبشكل غير مسبوق، إذ بالفعل لا يعنيها ما يتصل بالحالة الاجتماعية، وباتت تنخر في واقع المجتمع السوداني والدولة السودانية حتى تم تدمير المجتمع والدولة معاً، وهذا في دلالته الأساسية يتصل بمفهوم الربا و(التلاف)، وهذا هو السياق الجديد الذي يجب أن توضع فيه الحركة الإسلامية السودانية، فأعضاؤها هم الخارجون للربا و(التلاف)، لكن ضمن حالة تبرير ديني (واستهبال) ماكر للسيطرة على الواقع وتحويله لصالحهم.

إذن ما هي دلالة الربا و(التلاف) والتي يرمي لها هذا المقال مستوحيا ذلك المثل السوداني المعروف؟

*الربا والتلاف وثقافة التحلل:*

الربا كمفهوم لديه دلالته الدينية، وقد حذر الإسلام كثيراً من ظاهرة الربا، وهي الظاهرة التي يتم فيها التكسب في المال وبطرق غير مشروعة، وترتبط بالاستغلال كمفهوم عام ترفضه كل الأديان والشرائع السماوية.

لكن الربا الذي يرمي إليه هذا المقال، يرتبط بواقع الدولة السودانية ودخولها في العملية الاقتصادية بعقلية السمسار، وبالتالي العمل على التربح على حساب الجماهير الكادحة والمقهورة، والدولة هنا هي دولة الحركة الإسلامية، والذي استطاع أعضاءها المرتبطين بالدولة أن ينهبوا أموال الشعب السوداني، وباستخدام عقلية الربا و(التلاف)، ودون اعتبار للواقع المزري الذي تعيشه قطاعات الشعب المختلفة، وبرروا ذلك النهب بتنظير فقهي أطلقوا عليه فقه التحلل، وهذا فقه غريب يقر بالسرقة ولكن لا يعاقب فاعلها، والمعروف في قوانين الشريعة الظاهرة بأن السارق تقطع يده، وليس هناك شيء اسمه التحلل، والتحلل هو ثقافة الفتوة والتي تبرر فعل (التلاف) لمنسوبيها، وهنا ترتبط ثقافة الربا بثقافة (التلاف)، إتلاف الذمم، وإتلاف الحياة العامة، وفعل كل شيء من أجل التمسك بالسلطة، إلى درجة الإعتراف بممارسة الربا علناً، كما صدح بذلك علي عثمان محمد طه في مؤتمر الحركة الإسلامية قائلاً: (لا أدعو للربا أو التساهل فيه، لكن ألفت النظر للإطار الذي نتعامل فيه مع بنوك وشركات نظامها قائم على غير منهجنا).

هذا اعتراف صريح من قيادي بارز، بممارسة دولة الحركة الإسلامية للربا، مبرراً ذلك بالتعامل مع البنوك العالمية. هذا المنظور يدحض الرؤية التي قامت عليها تجربة الحركة الإسلامية، والتي صدعت عقولنا بالمشروع الإسلامي الذي يؤسس لتجربة إسلامية فريدة في الأخلاق والمعاملات، ولكنه انتهى في جب الرأسمالية بجوانبها الاستغلالية البحتة، وفسح الطريق لها مع تنحية مباديء الدين التي قال بها داخل المسجد.

*ماذا يؤشر هذا البعد في تفكير الحركة الإسلامية؟* المؤشر الأساسي هو المتصل بواقع الشعارات، وتسطيح المفاهيم من خلال الباسها قناعا دينيا تكٌشف سريعا من خلال عنف السلطة وأدوارها، وتحولت الحركة الإسلامية من حركة إسلامية، إلى حركة حرامية وقطاع طرق، لا يعنيها إلا الثراء والتربح والفعل المظهري.

من منظور حداثي فإن الدولة لابد أن تنفتح على العالم، وتتعامل مع البنوك والشركات العالمية، لكن يأتي هذا وفق المصالح الوطنية، ولهذا فإن مفهوم الربا الذي تحدث عنه علي عثمان طه في التعامل مع البنوك هو مفهوم سطحي، فتجربة البنوك ليست تجربة إسلامية أصلا، وقد نشأت البنوك في أوربا، استجابة لجنود الحملات الصليبية الذين جاءوا من أنحاء أوربا عبر ايطاليا، وكانت لديهم أموال لا يرغبون حملها إلى مواقع الحرب، فظهرت البيوتات المالية في إيطاليا استجابة لذلك، وتطورت لاحقاً لتصبح بنوكاً.

لكن الدولة الحديثة تتطلب التواجد في دائرة العالم ضمن منظور وطني يقف ضد الاحتكار والاستغلال الذي تقيمه الشركات العالمية ودولها الإمبريالية.

الحركة الإسلامية لا تعي ذلك، فهي تتعامل من خلال الشعار لتبرير مواقفها وممارساتها، فالربا يرتبط دوما بالتعاملات الفردية ضمن المفهوم الديني، وتجربة البنوك ترتبط بمعادلات اقتصادية معقدة، والذي يحكم ذلك هو وعي الدولة بالمصالح الاقتصادية، ويأتي حديث علي عثمان طه مرتبطاً بالشعار الديني، من أجل تبرير الفشل الذي ضرب أركان الدولة.

وكحقيقة موضوعية، فهنالك بعض أعضاء الحركة الإسلامية الذين اكتشفوا خطل التصورات (وتخارجوا) وبشكل فردي، مقرونا ذلك بخروج مجموعة الترابي، بعد المفاصلة ضمن صراع السلطة ومعادلاتها المصلحية.

في النهاية تبقى هنالك دلالتان في واقع الحركة الإسلامية، وهما دلالة الشعار من جهة، وما يترشح عن الواقع من جهة أخرى، ودلالة الإتلاف لحركة المجتمع.

فدلالة الشعار والواقع، ارتبطت منذ البداية بالشعار الديني مقابل الواقع، وتمثل ذلك في شعارات الفضيلة، والتي يقابلها في الواقع الرزيلة من خلال إفساد الواقع الاجتماعي، وكذلك شعار الأيادي المتوضئة، والذي يقابله في الواقع الأيادي السارقة، وكذلك شعار ما لدنيا قد عملنا، والذي يقابله في الواقع التكالب على الدنيا والتماهي مع متطلباتها، ويأتي شعار أمريكا وروسيا قد دنا عذابهما، وشعار أمريكا تحت حذائي، كما يقول البشير، وفي الواقع تقديم كل التنازلات الممكنة وغير الممكنة لأمريكا وهكذا.

أما (التلاف) أو الإتلاف فيرتبط بسيادة الرغبة في السيطرة والامتلاك، وفي هذا الخصوص فإن رغبة إشباع الذات ترتبط بالإنسان وبالحيوان معا، فالحيوان يمارس ذلك دون اعتبار لوجود الآخر، ويمكنه الفتك بالآخر من أجل حالة الاشباع هذه.

اما الإنسان ومن خلال حضور العقل فإن إشباع الذات يرتبط بإشباع ذات الآخرين، وهذا ما أدى للاعتراف بالآخر، ولكن في تجربة الحركة الإسلامية الحاكمة، يتم تغييب الآخر تماماً، وتتأكد الرغبة في إشباع الذات وحدها، حتى وإن تمت على تهديم وطن بأكمله، وهذا ما قصدناه بثقافة الربا و(التلاف) ومعادلها الموضوعي المتمثل في الحركة الإسلامية.

والسؤال يبقى مطروحا حول إمكانية عودة أعضاء الحركة الإسلامية لحلقات التلاوة بعد الارتباط بشهوات الحياة، وإذا كان ذلك غير ممكن، فإن التربية الوحيدة المتوفرة هي تربية السجن، ولكن متى يتم حشرهم في السجون؟

ahmedvi09@gmail.com

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى