أسير فى قيد دروس وعبر, لفضيلة الشيخ محمد حسان

: أحبتي في الله

(( أسير فى قيد .. دروس وعبر )) هذا هو عنوان لقائنا مع حضراتكم في هذا اليوم الكريم المبارك حتى لا ينسحب الوقت من أيدينا سريعاً فسوف أركز الحديث مع حضراتكم تحت هذا العنوان في العناصر التالية :

أولاّ : الرفق والإحسان إلى الناس يُحِولانِ البغض إلى حب.

ثانياّ : سيرة حافلة بالدروس والعبر .

ثالثاّ : عودة واجبة.

فأعيرونى القلوب والأسماع والله أسأل أن يجعلنا ممن الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ [الزمر:18]

أولا : الرفق والإحسان إلى الناس يحولان البغض إلى حب .

أحبتى فى الله ..

روى البخارى ومسلم وأبو داود والنسائى من حديث أبى هريرة قال : بعث رسول الله خيلاً قِبل نجد (أى أرسل النبى سرية عسكرية استطلاعية ناحية نجد ، وكانت هذه السرية بقيادة محمد بن سلمة فجاءت هذه السرية برجل من بنى حنيفة يقال له : ثمامة بن أثال سيد أهل اليمامة فربطت هذا الرجل فى سارية من سوارى المسجد (أى عمود من أعمدة المسجد) وهم لا يعرفونه ، فثمامة قبل من أقبال العرب (أى : سيد من أسياد العرب وشريف من أشرافهم) أسروه وهو فى طريقه إلى العمرة ولكن كان على الشرك بالله جل وعلا ، وأدخلوه إلى المسجد ، وربطوه فى عود من أعمدة المسجد النبوى فلما دخل النبى رآه فعرفه وفى رواية ابن هشام قال النبى لأصحابه : ((أَلاَ تَعرِفُونَ مَنْ هَذَا ؟!! ، إِنِّهَ ثُمَامًةُ بْنُ أُثَالٍ سَيِّدُ أَهْلِ اليَمَامَةِ)) وأمر النبى أصحابه أن يحسنوا إليه.

ونعد إلى رواية الصحيحين خرج النبى إليه قال : ((مَاذَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامًةُ ؟)) فقال : عندى يا محمد خيرٌ إن تقتل تقتل ذا دم ، وإن تنعم تنعم على شاكر ، وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت ، فتركه النبى حتى كان الغد . ثم خرج النبى فقال : ((مَاذَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامًةُ ؟)) قال : ما قلت لك : إن تنعم تنعم على شاكر ، وإن تقتل تقتل ذا دم ، وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت ، فتركه رسول الله حتى كان من الغد فقال : ((مَاذَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامًةُ ؟)) فقال : عندى ما قلت لك إن تنعم تنعم على شاكر ، وإن تقتل تقتل ذا دم ، وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت . فقال النبى : ((أَطْلِقُوا ثُمَامًةُ)) ، فأطلقه أصحاب النبى ، فانطلق ثمامة إلى نخل قريب من المسجد النبوى ، فاغتسل ، ثم دخل المسجد ، وقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، وقال : يا محمد والله ما كان على الأرض وجهٌ أبعض إلىّ من وجهك ، فقد أصبح وجهُك أحب الوجود كُلها إلىّ ، والله ما كان من دين أبغض إلىّ من دينك ، فأصبح دينك أحب الدين كله إلىّ ، والله ما كان من بلد أبغض إلىّ من بلدك ، فأصبح بلدك أحب البلاد كلها إلىّ ، وإن خيلك أخذتنى وأنا أريد العمرة فماذا تأمرنى ؟. فبشره النبى – قال الحافظ ابن حجر : بشره بخيرى الدنيا والآخرة أو بشره بالجنة أو بشره بتكفير سيئاته لأن الإسلام يهدم ما قبله – .

بشره رسول الله وأمره أن يعتمر ، فلما قدم مكة قال له قائل : أصبوت ؟ (أى هل تركت دين آبائك وأجدادك وتبعت محمد على دينه ؟) قال : لا ولكنى أسلمتُ مع رسول الله والله لا يأتيكم من اليمامة حبةُ حنطةٍ (أى حبة قمح) حتى يأذن فيها رسول الله (1

وفى رواية ابن هشام : أن ثمامة لما وصل بطن مكة رفع صوته بالتلبية فكان أول من لبى وجهر بالتلبية فى مكة فيما رأى المشركون رجلاً يتحداهم بهذه الصورة العلنية الجريئة قالوا : من هذا الذى يجترى علينا ويرفع صوته بالتلبية فى بلادنا وديارنا ويردد الكلمات التى يُعَلِمُهَا محمدٌ لأصحابه ؟! فانقضوا عليه وأرادوا أن يضربوا رأسه ، فقال أحدهم : ألا تعرفون من هذا إنه ثمامة ابن أثال سيد أهل اليمامة وأنتم تحتاجون إلى اليمامة فى طعامكم فخلوا سبيل الرجل ، فالتفت إليهم وقال : والله لا يأتينكم حبة من حنطة من اليمامة إلا بإذن رسول الله .

أيها الأحبة الكرام …

أنه مشهد بالغ الروعة اعترف بداية أننى أعجز عن أن أصور لحضراتكم روعته وعظمته وجلاله ، فرسول الله هو الرحمة المهداة والنعمة المسداه ، لا للموحدين فحسب بل للعالمين قال تعالى : َمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الانبياء:107] .

قال ابن عباس رضى الله عنهما : رسول الله رحمة للبار والفاجر فمن آمن به تمت له النعمة ، وتمت له الرحمة فى الدنيا والآخرة ، ومن كفر أمن من عذاب الدنيا حتى يلقى الله فى الآخرة مصداقاً لقول الله تعالى: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ [الأنفال:33] .

وفى الصحيحين – وتدبر هذا الحديث – عن عائشة قالت : يا رسول الله هل أتى عليك يوم كان أشد عليك من يوم أحد فقال المصطفى : ((لقدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ ، وَكَانَ أَشَدَّ مَا لَقِيتُ مِنْهُمْ يَوْمَ ‏‏الْعَقَبَةِ ‏‏إِذْ عَرَضْتُ نَفْسِي عَلَى ‏‏ابْنِ عَبْدِ يَالِيلَ بْنِ عَبْدِ كُلَالٍ)) وهو شريف من أشراف أهل الطائف ولكنه رفض دعوة النبى وسلط الصبيان والسفهاء على الحبيب ورموه بالحجارة حتى سالت الدماء من جسده الطاهر يقول : ((فَلَمْ يُجِبْنِي إِلَى مَا أَرَدْتُ ، فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِي فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلَّا وأنا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ)) مكان يبعد عن الطائف بما لا يقل عن خمسة كيلو مترات ، ولم يستفق النبى من همه وألمه إلا فى هذا الموطن ودماؤه تنْزف يقول : ((فَرَفَعْتُ رَأْسِي ، فَإِذَا أَنَا بِسَحَابَةٍ قَدْ أَظَلَّتْنِي ، فَنَظَرْتُ فَإِذَا فِيهَا ‏‏جِبْرِيلُ ‏‏فَنَادَانِي فَقَالَ : إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ، وَمَا رُدُّوا عَلَيْكَ ، وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْكَ مَلَكَ الْجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ ، قَالَ فَنَادَانِي مَلَكُ الْجِبَالِ ، وَسَلَّمَ عَلَيَّ ثُمَّ قَالَ : يَا ‏‏مُحَمَّدُ ‏‏، فقال : إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ وَأَنَا مَلَكُ الْجِبَالِ ، وَقَدْ بَعَثَنِي رَبُّكَ إِلَيْكَ لِتَأْمُرَنِي بِأَمْرِكَ . فَمَا شِئْتَ ؟ إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمْ الْأَخْشَبَيْنِ )) فقال له النبى : ((‏‏بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ ‏أَصْلَابِهِمْ ‏ ‏مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا)) (1) وفى رواية لما قيل أدع على المشركين قال المصطفى :((((‏إِنِّي لَمْ أُبْعَثْ لَعَّانًا وَإِنَّمَا بُعِثْتُ رَحْمَةً)) .

أيها المسلمون : تدبروا كيف حَوَّل الرفق والإحسان من رسول الله البُغض المتأصل فى قلب ثمامة إلى حب جياش فياض!! . ثمامة بن أثال سيد أهل اليمامة خرج إلى مكة ليعتمر ليقول : لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك إلا شريكاً هو لك . تملكه وما ملك ، فأبى الله جل وعلا إلا أن يلبى تلبية الموحدين ، فسبحان من بيده القلوب بحولها كيف يشاء قال تعالى : وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ [الأنفال:24].

ثمامة أُسر ورُبط فى المسجد وهنا ترجم عليه البخارى باباً يُجوّز فيه أن يدخل المشرك إلى المسجد ، وأبى النبى إلا أن يظل ثمامة فى المسجد النبوى لِحِكَمٍ غالية عديدة .. ليرى ثمامة بعينيه وليسمع بأذنيه عظمة هذا الدين .. ليرى النبى بنفسه .. وليسمع كلام النبى .. وليرى أخلاق النبى .

أيها المسلمون : لا بد أن نعى هذا الدرس العنف يهدم ولا يبنى ، الشدة تفسد ولا تصلح. الرفق والإحسان إلى الناس هو الذى يحول البغض فى القلوب إلى محبة صادقة فياضة ، ما أحوجنا إلى أن نعى هذا الدرس .

‏يأتى شاب شرح الله صدره للالتزام فأعفى اللحية ، وقصر الثوب ، وحافظ على مجالس العلم ، ولا زال أبوه بعيداً عن طريق الله ، ولا زالت أمه بعيدة عن طريق رسول الله ، فيجعل هذا الشاب من البيت حريقاً محرقاً مدمراً ، يسئ إلى والده ، ويسئ إلى أمه ، يسفه أباه ويحتقر أمه ، ويضرب أخوته ، ويسئ إلى إخوانه ، فيظن أهل البيت أن الالتزام غصب مستمر . لا يا أخى أنت أسأت إلى الإسلام من حيث لا تدرى ، وأسأت إلى منهج النبى فى الدعوة من حيث لا تشعر ، ففرقوا أيها الشباب وأيها المسلمون بين مقام الجهاد الذى يحتاج إلى الغلظة والقسوة والشدة ، وبين مقام الدعوة الذى يحتاج إلى اللين والحكمة والرحمة قال تعالى : ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل:125].

أيها الأحبة الكرام …

أنه مشهد بالغ الروعة اعترف بداية أننى أعجز عن أن أصور لحضراتكم روعته وعظمته وجلاله ، فرسول الله هو الرحمة المهداة والنعمة المسداه ، لا للموحدين فحسب بل للعالمين قال تعالى : َمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الانبياء:107] .

قال ابن عباس رضى الله عنهما : رسول الله رحمة للبار والفاجر فمن آمن به تمت له النعمة ، وتمت له الرحمة فى الدنيا والآخرة ، ومن كفر أمن من عذاب الدنيا حتى يلقى الله فى الآخرة مصداقاً لقول الله تعالى: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ

بـل وخـاطب الله نبيين كريمين خاطب موسى وهارون :

اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [طـه:43-44].

أيها الأحبة الكرام …

أنه مشهد بالغ الروعة اعترف بداية أننى أعجز عن أن أصور لحضراتكم روعته وعظمته وجلاله ، فرسول الله هو الرحمة المهداة والنعمة المسداه ، لا للموحدين فحسب بل للعالمين قال تعالى : َمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الانبياء:107] .

قال ابن عباس رضى الله عنهما : رسول الله رحمة للبار والفاجر فمن آمن به تمت له النعمة ، وتمت له الرحمة فى الدنيا والآخرة ، ومن كفر أمن من عذاب الدنيا حتى يلقى الله فى الآخرة مصداقاً لقول الله تعالى: اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [طـه:43-44].

قرأ سيدنا قتادة – رحمة الله – الآية فبكي ، وقال سبحانك ما أحلمك ، أن كنت تأمر موسى و هارون أن يقولا لفرعون قولاً ليناً ، فإن كان هذا هو حلمك بفرعون الذى قال : أنا ربكم الأعلى ، فكيف يكون حلمك بعبد قال سبحان ربي الأعلي؟!.

أحبتي في الله : إن ثمامة تأصلَّ البغض في قلبه ، و أنتم تعملون أن البغض الآن متأصل في قلوب كثيرة في الشرق و الغرب.

أقول: تأصل البُغض في قلب ثمامة. لا لشخص النبي بل لدين النبي بل لبلد النبي فما الذي حدث؟!

تحول هذا البغض إلى حب بالرفق والإحسان والحكمة والرحمة واللين.

هذه هي متطابقات مقام الدعوة إلى الله ، البغض الآن متأصل في قلبي الشرق والغرب علي الإسلام ، فصورة الإسلام مشوهة ، مُحرَّقة ، مبدلة !! كيف نحول هذه الصورة إلى حقيقتها ؟!! والإجابة : إذا عدنا نحن ابتداء إلى هذا الإسلام ، فحولنا الإسلام بعظمته بيننا ابتداءً وعلى أرض الواقع ، وفي دنيا الناس إلى واقع عملي ، وإلى منهج حياة ، يتألق سمواً وروعة وجلالاً ، فإن القول إذا خالف الواقع و العمل ، بذر بذور النفاق في القلوب كما قال علام الغيوب : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ [الصف:2-3].

ولاحظ أن ثمامة لما شرح الله صدره للدين وضع كل قدراته وإمكانياته وطاقته لنصر الدين فاستشعر المسئولية العظيمة التى أُلقيت على عاتقه منذ أول لحظه دخل فيها إلى دين الله – جل وعلا – فخلع رداء الكفر على عتبة التوحيد والإيمان ، وأعلن الفاصلة الحاسمة بين الإيمان و الشرك فأعلن الولاء لله ورسوله والمؤمنين وعلى الفور عادى الشرك والمشركين.

هذه كلها دروس مترابطة لا ينفك درس منها عن الآخر ، بمجرد أن يشرح صدر المرء للإسلام لابد من

أن يخلع رداء الكفر على عتبة الإيمان ، وأن يعلن الولاء لله ولرسوله وللمؤمنين وأن يعلن البراءة من الشرك

والمشركين ، وأن يسخر كل طاقته وقدراته وإمكانياته لنصرة هذا الدين الذي منَّ الله به عليه.

لاحظ قولة ثمامة وهو يقول للمشركين : والله لا تصل إليكم حبة حنطة حتى يأذن رسول الله ، وعاد ثمامة ليضرب حصارا اقتصاديا على قريش. والسلاح الاقتصادي من أخطر الأسلحة ، وبكل أسف يُستخدم الآن ضد المسلمين . حصاراً اقتصادياً على العراق .. حصاراً اقتصادياً على السودان .. حصاراً اقتصادياً على ليبيا .. حصاراً يستخدم لإذلال المسلمين .. و ليت الأمة تعي يوم أن استخدمت هذا السلاح مرة واحدة في حرب العاشر من رمضان – لا أقول حاصروا الغرب حصاراً اقتصادياً كاملاً بل بسلاح واحد من أسلحة الحصار ، ألا وهو سلاح البترول – تغيرت الموازين وانقلبت.

والأمة المسلمة تمتلك من القدرات و الإمكانيات و المقومات ما تستطيع بها – لو اتحدت كلمتها على قلب رجل واحد – أن تغير موازين العالم بأسره ، فأموال الأمة الإسلامية في البنوك الشرق والغرب تحرك دفة السياسة العالمية بأسرها .

انطلق ثمامة بمفرده ليضرب حصاراً اقتصادياً علي قريش حتى أكلت قريش

العلهز (1) واستجار القرشيون من أهل مكة بنهر الرحمة وينبوع الحنان محمد بن عبد الله قالوا : أنك تأمر بصلة الرحم وإن ثمامة قد منع عنا الميرة من اليمامة ، فإن شئت فاكتب اليه ليخلي بيننا وبين الميرة ، فما كان من نهر الرحمة وينبوع الحنان الذي يأمر بصلة الأرحام ، مع أنهم أعداؤه ، مع أنهم الذين أساءوا إليهليل نهار – ما كان منه إلا أن يكتب إلى ثمامة أن يخلي بينهم وبين ما يصل إليه من ميرة ففعل ثمامة ليعلم القرشيون قدر ومكانة رسول الله .

وهذا ما فعله عبد الله بن عبد الله بن أبي – رضوان الله عليه – لما قال رأس النفاق أبوه لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل فلما سمع ولده عبد الله بذلك ذهب إلى النبي فقال له المصطفي : (( أَوَ مَا سَمِعْتَ مَا قَالَهُ أَبُوكَ يَا عَبْدَ اللهِ)) قال : وماذا قال أبي بأبى أنت وأمي يا رسول الله ؟. قال : ((قَالَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الَمدِينَة لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ)) فقال عبد الله بن عبد الله بن أُبي : صدق والله أبي فأنت الأعز وهو الأذل ، ثم قال : يا رسول الله و الله لتري ما تقر به عينك ، فانطلق عبد الله ووقف لأبيه بالسيف على باب داره فقال عبد الله لأبيه : والله لا يأويك ظلها (يعني المدينة) ولا تبيتن الليلة في بيتك إلا بأذن من الله ورسوله لتعلم من الأعز ومن الأذل ، إنه الولاء لله والرسول والمؤمنين .. إنه البراء ، إنها المفاصلة الحاسمة .

دروس غالية يجب أن نقف أمامها طويلاً ، فإن سيرة النبي حافلة بالدروس والعبر لكننا بكل أسف أصبحنا نتعامل – إلا من رحم الله – مع سيرة النبي لمجرد الثقافة الذهنية الباردة ، أو لمجرد الاستمتاع السالب ، أو لمجرد الدراسة النظرية .. وكأن سيرة النبي

والله ما أرسل الله نبيه وما جعل الله حياة النبي ، وسيرة النبي ، وسنة النبي ماضياً فحسب ، بل يجب أن تكون سيرته شعلة توقد شموس الحياة ودماء تتدفق في عروق مستقبلنا وأجيالنا .

هذه السيرة ليست للدراسة النظرية ، بل لنحولها في حياتنا إلي واقع حياة .. وإلى منهج علمي .. يتألق سمواً ، وروعة .

فلنتعلم هذا الرفق .. وهذه الرحمة .. وهذه الأخلاق .. وصدق ربي إذ يقول : وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [فصلت:35-34] .

وصدق المصطفي إذ يقول كما في صحيح مسلم ((إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ وَيُعْطِي عَلَى الرِّفْقِ مَا لَا يُعْطِي عَلَى الْعُنْفِ وَمَا لَا يُعْطِي عَلَى مَا سِوَاهُ)) (1)وفي صحيح مسلم من حديث عائشة ((‏إِنَّ الرِّفْقَ لَا يَكُونُ فِي شَيْءٍ إِلَّا زَانَهُ وَلَا يُنْزَعُ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا ‏ ‏شَانَهُ)) (2).

تدبروا هذا الدرس الذي رواه مسلم من حديث معاوية بن الحكم السلمي يقول : بينما أنا أصلي مع رسول الله إذ عطس رجلٌ من القوم (أى في الصلاة) فقلت يرحمك الله . (أى وهو في الصلاة) يقول : فرماني القوم بأبصارهم فقلت وَاثُكْلَ أُميَاه ! ما شأنكم تنظرون إلىّ ، فجعلوا يضربون بأيدهم على أفخاذهم ، فلما رأيتهم يُصَمِّتُونَني لَكِّني سَكَتُ، فلما صلى رسول الله فبأبي هو أمي ! ما رأيت معلماً قبله ولا بعده أحسن منه تعليماً ، فوالله ما كَهَرِنَي ولا ضَرَبِنَي ولا شَتَمِنَي وإنما قال ((‏إِنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ لَا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ إِنَّمَا هُوَ التَّسْبِيحُ وَالتَّكْبِيرُ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ)) (1).

هل هذه الدروس لمجرد الاستماع السالب ؟! أم لتحول الأمة هذه الأخلاق وهذه الدروس في بيوتها ، وأماكن عملها ، وحياتها وواقعها إلى واقع عملي ، وإلى منهج حياة؟! ورسول الله هو أسوتنا وقدوتنا. قال تعالى : لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً [الأحزاب:21].

وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة وانس رضي الله عنهما : بينما نحن في المسجد مع رسول الله إذ جاء أعرابي فقام يبول في المسجد فقال أصحاب النبي مه مه (يعني ماذا تصنع) فقال المصطفى : ((لَا تُزْرِمُوهُ ‏ ‏دَعُوهُ)) ( تقطعوا عليه بولته ) فتركوه حتى بال ، ثم نادى عليه نهر الرحمة وينبوع الحنان ومعلم الحكمة نادى عليه بأبي هو وأمي وقال له : ((إِنَّ هَذِهِ الْمَسَاجِدَ لَا تَصْلُحُ لِشَيْءٍ مِنْ هَذَا الْبَوْلِ وَلَا الْقَذَرِ إِنَّمَا هِيَ لِذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالصَّلَاةِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ)) (2)وفي راوية ابن ماجه بسند صححه شيخنا الألباني – رحمه الله – إن هذا الأعرابي أصبح فقيها بعد هذه الكلمات فقال بأبي هو وأمي قال إلي ، ولم يؤنب ، ولم يسب ، ولم يضرب.

ثم انفعل هذا الأعرابي بأخلاق الحبيب النبي فقام يدعو للنبي في الصلاة كما في رواية البخاري (3)في كتاب الأدب من حديث أبي هريرة أنه قال: اللهم ارحمني ومحمداً ، ولا ترحم معنا ! أحد فلما سلم النبي قال للأعرابي : (( لقد حَجَّرْتَ واسعاً)) لماذا ضيقت ما وسع الله جل و علا -يريد رحمة الله – فالله سبحانه يقول:. وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ . [لأعراف: 156].

وتدبروا أيضاً هذا الحديث الذي رواه البخاري و مسلم و أحمد من حديث أنس أن النبي لما فتح حنين فقسم في المهاجرين و الطلقاء ولم يعط الأنصار شيئا ، فغضب الأنصار الأطهار الأبرار وقالوا : يغفر الله لرسول الله يُعطي قريشاً ويترُكُنا وسُيُوفُنا تقطر من دمائهم . قال أنس : فحُدَّث رسول الله بمقالتهم ، فأرسل إلى الأنصار فجمعهم في قُبِّة من أدم ، ولم يَدْعُ معهم غَيْرَهم فلما اجتمعوا قال النبي فقال ((مَا حَدِيثٌ بَلَغَنِي عَنْكُمْ)) فقال له فُقَهاء الأنصار: أما ذَوُو رَأْينا يا رسول الله فلم يقولوا شيئاً ، وأما ناسٌ منا حديثةٌ أسنانهم فقالوا : يغفر الله لرسول الله يعطي قريشاً ويتركنا وسيوفنا تقطر منه دمائهم . فقال النبي ((‏ ‏فَإِنِّي أُعْطِي رِجَالًا حَدِيثِي عَهْدٍ بِكُفْرٍ ‏ ‏أَتَأَلَّفُهُمْ ‏‏أَفَلَا تَرْضَوْنَ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بِالْأَمْوَالِ وَتَرْجِعُونَ إِلَى ‏‏رِحَالِكُمْ

‏‏بِرَسُولِ اللَّهِ؟ فَوَاللَّهِ لَمَا ‏‏تَنْقَلِبُونَ ‏ ‏بِهِ خَيْرٌ مِمَّا ‏يَنْقَلِبُونَ ‏بِهِ)) (1)وفي رواية ابن اسحق بسند صحيح من حديث أبي سعيد الخدري أن الأنصار قال قائلهم : و الله لقد لقي رسول الله قومه (أي لما لقي رسول الله قومه من قريش أعطاهم ونسينا) فلما سمع ذلك سعد بن عبادة انطلق إلى النبي فاخبره بما قال الأنصار فقال النبي المختار : اجمع لي الأنصار يا سعد ، فانطلق سعد فجمع الأنصار فخرج النبي إليهم فحمد الله و أثني عليه ثم قال : )(يَا مَعْشَرَ ‏‏الْأَنْصَارِ ‏‏أَلَمْ أَجِدْكُمْ ضُلَّالًا فَهَدَاكُمْ اللَّهُ بِي ؟ ، ‏‏وَعَالَةً ‏‏فَأَغْنَاكُمْ اللَّهُ بِي ؟ ، وَمُتَفَرِّقِينَ فَجَمَعَكُمْ اللَّهُ بِي ؟)) فسكت الأنصار ، فقال المصطفي : ((أَلَا تُجِيبُونِي يَا مَعْشَرَ ‏‏الْأَنْصَارِ)) فقالوا : الله ورسول أَمْنُّ . فقال المصطفي : : ((لَوْ شِئْتُمْ لَقُلْتُمْ فَصَدَقْتُمْ ، لَقُلْتُمْ جِئْتَنَا طَريداً فآَوَيْنَاك ، وَعَائِلاً فَوَاسَيْنَاكَ ، وَخَائِفاً فَأَمَنَّاكَ ، وَمَخْذُولاً فَنَصَرْنَاك)) فقال الأنصار : المنّ لله ولرسوله ، فالتقت المصطفي إليهم وقال بلغة الإحسان و الرفق والرحمة والحنان ، قال المصطفي : (( وَجَدْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ فِي لُعَاعَة (أى في أمر تافه من الدنيا ) فألَّفْتَ بها قُلُوبَ قَومٍ أَسْلَمُوا حَدِيثاً ، وَوَكَّلْتُكُمْ إِلَي إِيَمَانِكُمْ بالله ورسُوِلِه ، يَا مَعْشَرَ ‏‏الْأَنْصَارِ أَلَا تَرْضَوْنَ أَنْ يَرْجَعَ النَّاسُ إِلَى ‏رِحَالِهمْ بِالشَّاهِ والبَعِير وَتَرْجِعُونَ إِلَى ‏رِحَالِكُمْ بِرَسُولِ اللَّهِ)) ثم التفت إليهم مرة أخري وقال : ((‏‏‏يَا مَعْشَرَ ‏‏الْأَنْصَارِ لَوْ سَلَكَ النَّاسُ شِعْبًا وسَلَك ‏‏الْأَنْصَارِ ‏شِعْبًا لَسَلَكْتُ شِعْب ‏‏الْأَنْصَارِ ، وَلَوْلَا الْهِجْرَةُ لَكُنْتُ رَجُلاً مِنْ ‏ ‏الْأَنْصَارِ)) ثم رفع يديه وقال : ((اللهُمَّ ارْحَم الأَنْصَار ، وَأَبْنَاءَ الأَنْصَار ، وَأَبْنَاءَ أَبْنَاءَ الأَنْصَار)) فبكي الأنصار حتى اخضلت لحاهم من البكاء أمام هذا الإحسان والرفق ، وحسن التصرف ، و المعاملة.

وأختم هذه الدروس بدرس جميل آخر رواه الطبراني (1)من حديث عبد الله ابن سلام بسند رجاله ثقات أن حبر اليهود زيد بن السعنة قال : و الله ما من شيء من علامات النبوة إلا وقد عرفته في وجه النبي حين نظرت إليه إلا اثنين لم أعرفهما فيه الأولى : يسبق حلمه جهله ، والثانية : لا تزيده شدة الجهل عليه إلا حلماً.

يقول : فانطلقت يوماً فرأيت النبي وقد أقبل عليه رجل يركب راحته و هو يقول : يا رسول الله إن قومي من قرية كذا أو من بنى فلان فى قرية كذا كانوا قد دخلوا الإسلام فكنت وعدتهم أنهم إن دخلوا الإسلام أن يأتيهم الرزق رغداً ، وقد أصابهم اليوم شدة فاخشى أن يخرجوا من الإسلام طردا كما دخلوا الإسلام طمعاً فأن رأيت أن نرسل إليهم بشى من المال لتغنيهم به فعلت وجزاك الله خيرا فالتفت النبي إلى علىّ بن أبى طالب وكأنه يريد أن يسأل هل عندنا من المال شي ؟!! يقول زيد بن سعنة : فأقبلت على محمد وقلت يا محمد هل تبيعني تمر حائط بنى فلان إلى أجل معلوم؟ فقال النبي : ((نَعَمْ لَكن لا تُسمِّى حَائِطَ بنى فُلان)) فقال زيد ابن سنعة : قبلت . يقول زيد فأعطيت النبى ثمانين مثقالاً من ذهب فدفعها كلها إلى الرجل و قال : ((أَغِثْ بِهَذَا الَمالَ قَومَكْ)) يقول زيد : وقبل أن يحل وقت السداد رأيت محمداً في نفر من أصحابه ، بعد أن صلى على جنازة رجل من الأنصار ، يجلس إلى جوار جدار ، فأقبلت عليه ، وأخذت النبى من مجامع ثوبه و قلت له :أدى ما عليك من دَيْنٍ يا محمد فوالله ما علمتكم يا بنى عبد المطلب إلا مُطْلاً !! فالتفت عمر إلى هذا الحبر اليهودي – وهو لا يعرفه – وقال : يا عدو الله تقول لرسول الله ما أسمع ، وتفعل برسول الله ما أرى ، والله لولا أنى أحذر غضبه لضربت رأسك بسيفي هذا !! فالتفت النبي إلى عمر وزيد بن سنعة يراقب وجه النبي ، و يراقب كلمات النبي ، ويريد أن يسمع ماذا سيقول رسول الله فى هذا الموقف الرهيب العصيب ، فالتفت النبي إلى عمر وقال : ((أَنَا وَهُو يَا عُمَرُ كُنَّا أَحْوَجَ إِلَى غَيْرِ هَذَا مِنْكَ ، أَنْ تَأْمُرِنَي بحًسْنِ الأَدَاءِ وَتَأْمُرَهُ بِحُسْنِ التَّقَاضِي ، اذْهَبْ بِهِ يَا عُمَرُ فَاقْضِهِ حَقَّهُ وَزِدْهُ عِشْرِينَ صَاعاً مِنْ تَمْرٍ جَزَاءَ مَا رَوَّعْتَهُ)) . يقول زيد : فأخذني عمر فأعطني حقي وزادني عشرين صاعاً من التمر . فقلت له : ما هذه الزيادة. قال : أمرني رسول الله أن أزيدكها جزاء ما روعتك . فقال زيد بن سعنه : ألا تعرفنى يا عمر . قال : لا قال : أنا عمرو بن سعنة قال عمر : حبر اليهود . قال : نعم . قال عمر : فما الذي حملك على أن تفعل برسول الله ما فعلت ؟!! قال زيد : ياعمر والله ما من شيء من علامات النبوة إلا وقد عرفته في وجه محمد حين نظرت إليه إلا اثنتين لم أعرفها ، فيه الأولى : يسبق حلمه جهله ، والثانية : لا تزيده شده الجهل عليه إلا حلماً أما وقد عرفهما اليوم فإني أشهدك أني قد رضيت بالله رباً وبالإسلام ديناً و بمحمد نبياً ورسولاً وعاد حبر اليهود مع عمر بن الخطاب إلى المسجد فقال : أشهد أن لا أله الله وأن محمد رسول الله ، وشهد مع رسول الله بعد ذلك كل المشاهد والغزوات وتوفي في غزوة تبوك مقبلا غير مدبر .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى