هَلْ قابلَ الرسولُ-صَلَّ اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ-خديجةَ قبلَ الزَّواج

هَلْ قابلَ الرسولُ-صَلَّ اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ-خديجةَ قبلَ الزَّواج

الجواب:

الحمدُ للهِ

تشيرُ رواياتُ السِّيرةِ النَّبويةِ إلى أنَّ خديجةَ بنت خُويلد-رضي الله عنها-كانتِ امرأةً حازمةً وذكيةً،وكانتْ كذلكَ غنيةً،ولها تجاراتٌ متعددةٌ،وكان رجالُ قومِها يَحْرِصُونَ على الزَّواجِ منها،ولم تكنْ تعملُ في التِّجارةِ بنفسِها،وإنَّما كانتْ تستأجرُ رجالاً يعملون لها في مالِها.

ووصلَ إلى خديجةَ-رضي الله عنها-خبرُ الصَّادقِ الأمينِ-صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ-وسمعتْ من أخبارِ صِدْقِهِ وأمانتِهِ الكثيرَ،فرغبتْ في أنْ تستأجرَهُ؛ليعملَ لها في تجارتِها،فأرسلتْ له مَن يعرضُ عليه الأمرَ،فوافق النَّبيُّ-صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ-على ذلكَ.

وخرج النَّبيُّ-صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ -متاجراً بمالِ خديجةَ-رضي الله عنها-,وكانَ معه غُلامٌ لخديجةَ يُدعَى”ميسرة”،وقد رأى ميسرةُ من الآياتِ التي حصلتْ للنَّبيِّ-صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ -في رحلتِهِ ما بِهَرهُ،وجعلَهُ يُخبرُ سيدتَهُ خديجةَ بكُلِّ ما رآهُ.

فمنْ ذلكَ أنَّ الرَّسُولَ-صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ-عندما قدم مدينةَ بُصرى بالشام,نزلَ في ظِلِّ شجرةٍ،فقالَ أحدُ الرُّهبانِ لميسرةَ: ما نَزَلَ تحت هذه الشَّجرةِ قَطُّ إلا نبيٌّ،وكان ميسرةُ يرى مَلَكينِ يظلان النَّبيَّ-صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ-إذا اشتدتْ حرارةُ الشَّمسِ.

ورجعَ النَّبيُّ-صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ-من رحلتِهِ تلك،وقد ربحت تجارةُ خديجةَ أضعافَ ما كانتْ تربحُ مِنْ قبلُ،فأُعجبت خديجةُ-رضي الله عنها-بشخصِ النَّبيِّ-صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ -ورغبتْ في الزَّواجِ منه،فأرسلتْ صديقتَها نفيسةَ بنت مُنيَّة تعرضُ على النَّبيِّ-صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ-الأمرَ،فوافقَ-صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ-على ذلك،وتولَّى أمرَ زواجِ خديجةَ-رضي الله عنها-أبوها خُويلد،في أصحِّ الرِّواياتِ كما ذكرَ أصحابُ السِّيَرِ.

ومما سبق يُعلَمُ أنه لم تكن هناك علاقةٌ تخدشُ الحياءَ بين النَّبيِّ-صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ-وبين خديجةَ-رضي الله عنها-قبلَ الزَّواجِ بها.

فأخلاقُ النَّبيِّ-صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ-وحُسْنُ سيرتِهِ,وحفظُ اللهِ-تعالى-له قبلَ كُلِّ شيءٍ منعَهُ مِن كُلِّ ما يَخْدِشُ الرِّسالةَ,أو يُنافي الحياءَ والمروءةَ.

ولو حصلَ هذا-وحاشاه-صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ-,لما سكتَ عنه كُفَّارُ قُريشٍ،ولعدُّوا ذلك عيباً عظيماً،ولاتخذوه ذريعةً في ردِّ دينِهِ،وتشويه سُمعتِهِ-صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ-ولكن شيئاً من ذلك لم يكنْ،بل كانُوا يُلقِّبونَهُ-صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ-قبلَ النُّبوةِ بـ(الصادق) و(الأمين),ولم يطعنُوا في عِفَّتِهِ-صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ-قَطُّ.

هذا؛ولتعلم-يا أخي- أنَّ الأنبياءَ-عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ–جميع الأنبياء-هم أكملُ البشرِ وأفضلُهم؛فإنَّ الله-تعالى-لا يختارُ للرسالةِ إلا مَن هو أهلٌ لها،قالَ اللهُ-تعالى-: (اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ) الأنعام/124.

قال ابنُ كثيرٍ-رحمه الله-:

أي : هو أعلمُ حيث يضعُ رسالتَهُ,ومَن يصلُحُ لها من خَلْقِهِ،كقولِهِ-تعالى-:(وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنْ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ . . . الآيةَ ) . الزخرف/31 ،يعنون لو نزل هذا القرآنُ على رجلٍ عظيمٍ كبيرٍ جليلٍ مُبجَّلٍ في أعينهم (من القريتين),أي مكةَ والطَّائِفَ،وذلك أنهم قَبَّحهم اللّهُ كانوا يزدرون بالرَّسُولِ-صلوات اللّه وسلامه عليه-بغياً وحسداً،وعناداً واستكباراً،كقولِهِ-تعالى-مُخبراً عنه:{وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُم بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ} (36) سورة الأنبياء .وقال-تعالى-:{وَإِذَا رَأَوْكَ إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا}(41) سورة الفرقان،وقال-تعالى-:{وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُون}(41) سورة الأنبياء. هذا وهم معترفون بفضلِهِ وشَرَفِهِ ونَسَبِهِ،وطهارةِ بيتِهِ ومُربَّاهُ،ومنشئه-صلى اللّهُ وملائكتُه والمؤمنون عليه-،حتى إنهم يُسمُّونه بينهم قبل أنْ يُوحَى إليه”الأمين”،وقد اعترف بذلك رئيسُ الكُفَّارِ(أبو سفيان) حين سأله هرقلُ ملكُ الرُّوم:وكيفَ نَسَبُهُ فيكم ؟ قال : هو فينا ذو نَسَبٍ،قال:هل كنتُم تتهمونه بالكذبِ قبلَ أنْ يقولَ ما قالَ؟ قال : لا.. الحديثَ بطولِهِ الذي استدلَّ ملكُ الرُّومِ بطهارةِ صفاتِهِ-عليه السلام- على صدق نبوته وصحة ما جاء به أهـ .

وقد ذكر العلماءُ-رحمهم اللهُ-أنَّ الأنبياء معصومون من الكبائر,ومن كُلِّ الذُّنوبِ التي تدلُّ على دناءةِ فاعلِها.

قال ابنُ العربيِّ:”فهذا محمدٌ- صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ-ما عصى قَطُّ رَبَّهُ،لا في حالِ الجاهليةِ ولا بعدها،تكرمةً من الله وتفضلاً وجلالاً،أحله به المحلَّ الجليلَ الرَّفيعَ …. وما زالتِ الأسبابُ الكريمةُ ،والوسائلُ السَّليمةُ تحيطُ به من جميعِ جوانبِهِ” أهـ.

وقال النَّوويُّ-رحمه الله-:

“اعْلَمْ أَنَّ الْعُلَمَاء اِخْتَلَفُوا فِي جَوَاز الْمَعَاصِي عَلَى الْأَنْبِيَاء-صَلَوَات اللَّه وَسَلَامه عَلَيْهِمْ-, وَقَدْ لَخَصَّ الْقَاضِي-رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى-مَقَاصِدَ الْمَسْأَلَةِ,فَقَالَ : . . . وَأَمَّا الْمَعَاصِي فَلَا خِلافَ أَنَّهُمْ مَعْصُومُونَ مِنْ كُلِّ كَبِيرَةٍ . . .

وَكَذَلِكَ لا خِلافَ أَنَّهُمْ مَعْصُومُونَ مِنَ الصَّغَائِر الَّتِي تُزْرِي بِفَاعِلِهَا وَتَحُطُّ مَنْزِلَتَهُ وَتُسْقِطُ مُرُوءَته,وَاخْتَلَفُوا فِي وُقُوعِ غَيْرِهَا مِنَ الصَّغَائِرِ مِنْهُمْ,فَذَهَبَ مُعْظَمُ الْفُقَهَاء وَالْمُحَدِّثِينَ وَالْمُتَكَلِّمِينَ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ إِلَى جَوَازِ وُقُوعِهَا مِنْهُمْ,وَحُجَّتُهمْ ظَوَاهِرُ الْقُرْآنِ وَالأَخْبَارِ,وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ التَّحْقِيقِ وَالنَّظَرِ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ مِنْ أَئِمَّتنَا إِلَى عِصْمَتِهمْ مِنَ الصَّغَائِرِ كَعِصْمَتِهِمْ مِنَ الْكَبَائِرِ,وَأَنَّ مَنْصِبَ النُّبُوَّةِ يَجِلُّ عَنْ مُوَاقَعَتِهَا وَعَنْ مُخَالَفَةِ اللَّهِ-تَعَالَى-عَمْداً,وَتَكَلَّمُوا عَلَى الآيَاتِ وَالأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ وَتَأَوَّلُوهَا , وَأَنَّ مَا ذُكِرَ عَنْهُمْ مِنْ ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ فِيمَا كَانَ مِنْهُمْ عَلَى تَأْوِيلٍ أَوْ سَهْوٍ أَوْ مِنْ إِذْنٍ مِنْ اللَّهِ-تَعَالَى-فِي أَشْيَاءَ أَشْفَقُوا مِنَ الْمُؤَاخَذَةِ بِهَا,وَأَشْيَاءَ مِنْهُمْ قَبْلَ النُّبُوَّةِ, وَهَذَا الْمَذْهَبُ هُوَ الْحَقُّ . . . هَذَا آخِرُ كَلامِ الْقَاضِي عِيَاض-رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى- وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أهـ.

وإجلالاً لمنصب النبوةِ؛قال العلماءُ : إنَّ مَنْ قَذَفَ نبياً من الأنبياءِ؛كَفَرَ ووجَبَ قتلُهُ.

قال شيخُ الإسلامِ ابنُ تيمية في “مجموع الفتاوى”(35/123) :

اتفق الأئمةُ على أنَّ مَنْ سبَّ نبياً قُتِلَ أهـ. والرَّميُ بالزِّنى مِنْ أعظمِ السَّبِّ.وقد ذكر ابنُ قُدامةَ-رحمه الله-في “المغني” (12/405) :

أنَّ مَنْ قَذَفَ أُمَّ النَّبيِّ-صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ -قُتِلَ ولو تابَ،مُسلماً كان أو كافراً،غيرَ أنه إنْ تابَ فتوبتُهُ مقبولةٌ عندَ اللهِ-تعالى-،ولا يسقطُ عنه القتلُ بالتَّوبةِ،لحقِّ النَّبيِّ-صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ-.

ثم قال :

والحكمُ في قذفِ النَّبيِّ-صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ -كالحُكمِ في قذفِ أُمِّهِ؛لأنَّ قذفَ أُمِّهِ إنما أوجبَ القتلَ؛لكونِهِ قذفاً للنَّبيِّ-صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ-وقَدْحاً في نَسَبِهِ.أهـ.

واللهُ أعلمُ

انظر: زاد المعاد (1/77) ،السيرة النبوية الصحيحة: للدكتور أكرم ضياء العمري (1/112-114)،السيرة النبوية: للدكتور مهدي رزق الله (ص 132)،أفعال الرسول- صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ-للدكتور محمد سليمان الأشقر (1/139-165)،أحكام القرآن الكريم(3/576).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى