هندسة الاتصالات في استخدام الطيور

ذكر الله في محكم كتابه الكريم ما يتعلق باستخدام الطيور في الاتصالات والمراسلات، كما هو الحال في قصة الهدهد مع سيدنا سليمان عليه السلام، إذ تم استخدامه كناقل للخبر ومراسل سريع وذكي رغم أن سيدنا سليمان قد أوتي من أساليب النقل الخارق الذي سنفصله في مباحث لاحقة إلا أنه فضّل استخدام هذا الطائر في تلك المخاطبات والمناقلات الخبرية. يبين لنا هذا البحث السبق القرآني في توضيح أفضلية طائر الهدهد على الحمام في الاستخدامات الاتصالاتية.
الطيور عالم عجيب
تعتبر الطيور أفضل “آلات” الطيران على الإطلاق على وجه الأرض. ولقد بينت الكثير من البحوث والمراقبات العلمية والمختبرية أهم تقنيات الطيران لدى الطيور، وتناولت بنية الديناميكا الهوائية الموجودة في أجسامها، وشرحت الأنظمة التي تمكنها من التحكم في طيرانها أفضل من أحدث الطائرات تطوراً. فهناك الطيور المهاجرة التي تطير على شكل الطائرات النفاثة، وهناك طائر النحل ذي الأجنحة الحادة، وهناك الصقور التي تطير بسرعة 300 كم في الساعة، وهناك الطيور السباحة التي تسبح أسرع من أشهر السباحين، وهناك طيوراً ذات ريش أخاذ، وهناك الطيور الملاحة كالطيور المهاجرة مثل البط والأوز البري واللقالق والبجع والهدهد، وهناك الطيور الصدّاحة كالبلبل والعندليب، وهناك الطيور الناقلة للخبر مثل الحمام، وهناك الطيور المتحدثة مثل الببغاء وغير ذلك. هذا فضلاً عن أشكالها الخلابة، فكل طائر أجمل من الآخر لما يتميز به من زينة، وهذه الحقائق هي من خلق الله الذي أتقن كل شيء ووسع علمُه كلّ شيء، يقول الله تعالى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ)، (النور، الآية 41)(1).
أفاد علماء في دراسة نشرت بمجلة “نيتشر(Nature)” العلمية بأن الحمام الزاجل يستخدم المجال المغناطيسي للأرض لتحديد طريق العودة إلى المكان الذي ينتمي إليه عند سفره لمسافات طويلة. وأوضح العلماء أن الحمام الزاجل يستخدم على الأرجح جزيئات مغناطيسية في منقاره لاستشعار المجال المغناطيسي للأرض. وذكر الباحثون من جامعة أوكلاند بنيوزيلندا أن الحمام الزاجل يستخدم تلك القدرة الطبيعية لرسم خريطة للمجال المغناطيسي للأرض ومن ثم الاستعانة بتلك الخريطة للعودة إلى موطنه.
وتثير نتائج الدراسة الجديدة الشكوك حول النظرية الداعية إلى أن الحمام الزاجل يستخدم حاسة الشم لتحديد طريق العودة إلى موطنه أثناء الطيران. ووضعت كوردولا موراد وزملاؤها من جامعة أوكلاند مجموعة من الحمام الزاجل في نفق خشبي ثبت على طرفيه صندوقان للعلف، كما قاموا بتثبيت لفائف مغناطيسية خارج النفق.
ودرب الحمام (الشكل 1) على التوجه لأحد صناديق العلف إذا كانت اللفائف المغناطيسية غير فعالة والطيران نحو الصندوق الآخر إذا تم تفعيل المجال المغناطيسي لتلك اللفائف.
وقام العلماء بعد ذلك بتجارب تهدف للتشويش على قدرة الحمام الزاجل على رصد المجال المغناطيسي. فقد ربط العلماء مغناطيسا بمنقار كل طائر الأمر الذي أدى إلى التشويش بصورة كبيرة على قدرة الحمام على معرفة ما إذا كانت اللفائف المغناطيسية تعمل أم لا. وقام فريق الباحثين بعد تلك التجربة بتخدير المنطقة العلوية من منقار الحمام الزاجل الأمر الذي تسبب أيضا في تراجع قدرة الحمام على تحديد المجال المغناطيسي الذي تولده اللفائف المغناطيسية.
وقطع العلماء بعد ذلك عصب مثلث الوجوه لدى الحمام الذي ينقل الإشارات البصرية وغيرها إلى المخ ليكتشفوا أن قدرة الحمام على تحديد المجال المغناطيسي انهارت. ولم تتأثر قدرة الحمام على تحديد المجال المغناطيسي عندما قطع الباحثون عصب الشم لدى الحمام الذي ينقل إشارات الشم إلى المخ، وهو ما يتناقض مع النظرية القائلة إن الحمام الزاجل يستخدم حاسة الشم لتحديد طريقه أثناء الطيران.
وتتطابق تلك النتائج مع النظرية الداعية إلى أن الحمام الزاجل يستخدم جزيئات في الجزء العلوي من منقاره لتحديد المجال المغناطيسي للأرض. ويذكر أن تلك الجزيئات المغناطيسية في الجزء العلوي من منقار الحمام الزاجل اكتشفت في السبعينيات(2).
استطاع العلماء والباحثين بجامعة فرانكفورت الألمانية فهم ظاهرة الملاحة عند الحمام الزاجل وعمله كساعي بريد، لا يضل السبيل ولا يخطئ الهدف إلا إذا تعرض لكارثة تعيق رحلته. وقد كانت الفكرة السائدة عند الإنسان القديم حول اهتداء الحمام الزاجل لسبيله بفضل ما يعرف بالبوصلة الكيميائية التي تعتمد على قوة الملاحظة والذاكرة الجغرافية والارتباط الوثيق بموطنه وبيته، الأمر الذي جعل الإنسان يروضه ويستأنسه ويستفيد من ميزاته.

وأهم الميزات التي تجعل الحمام الزاجل ساعي بريد هي:

1. اعتماد الحمام الزاجل على ميل الشمس كمؤشر على اتجاهه لامتلاكه ساعة حيوية داخلية مرتبطة بتعاقب الليل والنهار، وعند التلاعب بهذه الساعة بتعريض الحمامة لضوء اصطناعي قوي تظن أن النهار قد طال، وفي هذه الحالة وعند إطلاقها إلى مسافة بعيدة فإنها تتخذ اتجاها خاطئا، ولكنها تصححه فيما بعد، وبالتالي فإن الشمس تفيد الحمامة في إعطائها مؤشرا على الاتجاه ولا تفيدها في تحديد موقعها الجغرافي بدقة.
2. وجود بلورات مغناطيسية داخل رأس الحمامة، ففي عام 1979 فحص العلماء دماغ الحمام الزاجل، واكتشفوا وجود كميات كبيرة من الجزيئات المغناطيسية متمركزة في أسفل جمجمته ضمن نسيج يبلغ سمكه (1 – 2مم)، وهذه الجزيئات عند استخراجها تبين أنها تتكون من (بلورات أكسيد الحديد المغناطيسي) ويبلغ عددها حوالي(10) ملايين جزيء تقع في النسيج الدماغي المرتبط ارتباطا وثيقا مع العصب المسؤول عن نقل السيالات العصبية الشمية، وكل ذرة من أكسيد الحديد المغناطيسي تتصرف وكأنها مغناطيس صغير.وهكذا يكون دماغ الحمامة قادرا على تخزين وجهة الطيران في الذاكرة، ووجد الباحثون أن حساسية هذه البلورات تجاه أية تقلبات في شدة المجال المغناطيسي الأرضي مهما كانت ضعيفة هي حساسية دقيقة تساعدها على المقارنة بين شدة المجال المغناطيسي في الأرض التي توجّه إليها وشدته في موطنه الأصلي.
3. وجود ما يعرف بـ (قرن آمون) في دماغ الحمام الزاجل، فعند مراقبة النشاط الدماغي للحمامة أثناء رحلتها أثبت فريق من علماء الطيور في إيطاليا بأن معالجة المعلومات المكانية تجري في جزء من دماغها يدعى قرن آمون (hippocampus) ويقع في الفص الصدغي من الدماغ الذي يساعدها في ترجمة المعلومات التي تردها من حواسها.
4. تميز منقار الحمام الزاجل، فقد وجد علماء الطيور الألمان عند الحمام الزاجل وفي الخلايا العصبية عند مقدمة المنقار جزيئات مغناطيسية نانومترية من صنفين مختلفين من الحديد الممغنط تضمن له معرفة الاتجاه بالاعتماد على المجال المغناطيسي الأرضي. ولكي نتخيل مدى شدة دقة هذا النظام الملاحي المغناطيسي في منقار الطير تجدر الإشارة إلى أن أي تغيير بحدود 50 نانوتسلا ( التسلا وحدة قياس المجال المغناطيسي) في شدة المجال المغناطيسي الأرضي التي تبلغ 50000 نانوتسلا، يكفي لتنشيط النظام الملاحي الطبيعي ولتوجيه الطير توجيها جديدا.
5. كما أن الحمامة تعتمد على جميع حواسها لتحديد موقعها بدقة، فهي تستطيع تحديد موقعها عن طريق حاسة الشم حيث ترسم لنفسها خريطة لرائحة بيتها وتربط بها الروائح التي تستقبلها من الهواء. وبالتالي فهي قادرة على اتباع تسلسل تلك الروائح التي تحدد من خلالها موقعها، وعند التلاعب بهذه الحاسة بإشباع فتحتي الأنف عندها بروائح قوية فإنها تعاني من إيجاد طريقها. وتحدد موقعها أيضا بالاعتماد على حاسة السمع، فقد تبين بالدراسة أن الحمامة تسمع أصواتا ذات تردد منخفض جدا لا يشعر به الإنسان لتحدد لنفسها خريطة سمعية لموقعها تشمل الأصوات ذات التردد المنخفض الناتج عن أمواج البحر وعن الرياح وحتى عن النشاط الزلزالي للأرض.
6. وتعتمد على حاسة النظر حيث ترسم خريطة لمختلف المعالم ذات العلاقة بطريقها وبوجهتها النهائية. ولمعرفة الدقة في تحديد المسار والطريق المتبع استعان الباحثون بأجهزة تتبع (نظام التوقيع العالمي gps ) المرتبط بالأقمار الصناعية، عند إلصاقها على ظهر الحمامة لمتابعة مسارها في رحلاتها.
الشيء العجيب أن الحمام الزاجل ليس الكائن الوحيد الذي يمتلك مثل هذا النظام الملاحي وهو موجود عند كل الطيور المهاجرة ومنها البط والأوز البري واللقالق والبجع والهدهد، كذلك تتواجد تلك الخصائص عند النحل والدلافين والحيتان بالإضافة إلى سلاحف البحر والكثير من أنواع البكتريا الدقيقة، وكل هذه الأنواع المختلفة من الحيوانات قادرة على تحديد وجهتها الصحيحة بفضل الحقل المغناطيسي لكوكب الأرض(3).
ورغم أننا نعلم أن تسخير الطير والجن لسيدنا سليمان عليه السلام هو معجزة ربانية ولكننا هنا نحاول تفهم ذلك السبق القرآني في مجال اختيار طائر الهدهد دون غيره وما السر في ذلك؟.

وأما الحمام فرغم كونها كفوءة ملاحياً في نقل الرسائل كما بينا وكما اعتادت على ذلك الحضارات القديمة فهي قد لا تصلح في نقل الأخبار لمسافات بعيدة جداً كتلك التي بين القدس وسبأ لأنها لا تملك خاصية دفاع عن نفسها في حال مهاجمتها كما يفعل الهدهد كما وأنها بطيئة على الأرض ولا تتحمل الجوع لفترات طويلة وضعيفة أمام مغريات إطعامها.
ولقد بينت الدراسات الحديثة أن الهدهد أكفأ من الحمام في الاستخدامات النقلية والاتصالاتية، فهو أسرع طيراناً ولا يحتاج للجماعة في طيرانه وقوة دفاعه عن نفسه أكفأ وتحمله للجوع والعطش أكثر فضلاً عن ذكاءه ومكره المشهور بهما. لذلك والله أعلم كان الاختيار الأفضل للهدهد من بين بقية الطيور فهو يحمل خصائص فريدة من نوعها مثل:
1. طائر غير جارح وغير مخيف.
2. سريع جداً في الطيران والعدو.
3. يتحمل الظروف الصعبة.
4. ذكي ومراوغ.
5. قابلية تخفي ودفاع عن النفس بشكل رائع وسلمي وباستخدام عدة طرق مثل أخذ حمام رملي ومن ثم الطيران قرب الأرض كي لا يميزه الناظر عن شكل الأرض فلا يعرف اتجاهه أو باستخدام تقنية رش رذاذ أسود زيتي برائحة كريهة من غدة بقاعدة الذيل تبعد أي متطفل كما بينا آنفاً.
6. لا يحتاج للجماعة في طيرانه وهجرته مما يجعله صعب المراقبة في معرفة الاتجاه.
7. له قابلية ملاحية متميزة في معرفة الاتجاهات لا تقل عن الحمام.
8. له قابلية عجيبة في طلب الماء والكشف عن تواجده تحت الأرض.
ولعل تلك المميزات هي التي أهلته ليكون بتلك المنزلة والثقة التي أوليت له من قبل سيدنا سليمان، على أن ذلك قد يوحي بأن ذلك الهدهد كان من نوع خاص وتم تربيته وتهيئيته وتدريبه بعناية فائقة، والله تعالى أعلم.
فمن أين لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بتلك الحقائق العلمية التي اكتشفت حديثاً خصوصاً وأن تلك الحقيقة لم ترد في الكتب السماوية السابقة أو ما وصلنا منها بعد تحريفها؟!.. إنه الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر(20).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى