سحر كلمة .. “.. ولكن” 2019

– كلما بدأ الحوار مع طرف آخر وافقك الرأي وهز برأسه، وقال: “كلامك صحيح وعلى عيني ثم رأسي”، وأردف بعدها بكلمة “لكن”، كدلالة على نسف ما قلت، حيث إن لديه كلاماً آخر، ولن تشفع لك هزة الرأس بالموافقة على ما قلت. إنها مجرد حركة رأس اجتماعية، القصد منها: “وصلني رأيك”، ولذلك يردف: “لكن”.

هذه الـ”لكن” حاضرة في كل حــوار، بل هي مدخل الحديث عندما ينتقل الحوار إلى الطرف الآخر، والأمثلة على الـ”لواكن” كثيرة بعضها ناعم يشبه العتاب، وبعضها ودي يشبه الصداقة وبعضــها الآخر اجتماعي يقارب المجاملات، لكن أخطرها السياسي الذي يشبه الأمني والتخوينــي والترهيبــي والتخويفي، وكل التاءات التي (تؤدي الى كارثة).

راقبوا عاشقين مثلاً يتخاصمان “فيغضبان” من بعضهما، ثم يعترف أحدهما إلى خله: رغم كل ما فعلته “لكن” أحبك. فيجيب الخليل، وأنا أيضاً أحبك.. “لكن” لا تعاود فعلتك مرة أخرى. ويستمران عتاباً وتدللاً حتى يظهر خيط الفجر.

وراقبوا برنامجاً حوارياً سياسياً، سترون حينها، كيف أن لكلمة “لكن” مفعولاً سحرياً لإطاحة الخصم ونقله إلى خانة قلة الصبر، خاصة حين يطول الشأن الثوري العربي، حيث لا يتفق الخصمان على مسمى ثورة، ولا يتفقان على مفهوم الربيع العربي. ولا يتوافقان في إطلاق الأحكام على الفساد، فهو صمود في جهة وانتفاع في أخرى، وهو ديكتاتورية في بلد وعدل ومساواة في غيره. وتظل كلمة “لكن” تجري بينهما “كوقع الصياصي في النسيج الممدد”، كما قال دريد بن الصمة.

لهذه الكلمة مفعولهـــا السحري فـــي إذكــاء نار الحوار، غير أنها لا تفضي إلى نتيجة أو فائدة، وتكاد تكون مضيعة للوقت، حين تفرمل الحوار ثم تدفعه إلى الأمام، ولا أظن أن أمة أحبت الكلام كما فعلنا، لذلك نتخاصم عبر “لكن” ونتصالح بصابون العتاب، لأننا أمة سماعية، كما وصفنا عبدالله القصيمي في كتابه (العرب ظاهرة صوتية).

ولأننا نعرف حجم الآخر، نضعه وسط كلمة “لكن”، ونضغط عليه حتى يستسلم. ونظل نفند أقواله حتى تخور قــواه، فإن سقط شحذنا سكاكيننا، وإن صمد خوناه وحقرناه وكفرناه. وأخشى أننا نعمد إلى أن نطلق عليه النار.

حقاً نحن لا نجيد الحوار.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى