درويشيات مختارات قصائد اشعار محمود درويش

قصائد عن حب قديم

-1-
على الأنقاض وردتُنا
ووجهانا على الرملِ
إذا مرّتْ رياحُ الصيفِ
أشرعنا المناديلا
على مهل.. على مهلِ
و غبنا طيَّ أغنيتين، كالأسرى
نراوغ قطرة الطّل
تعالي مرة في البال
يا أُختاه!
إن أواخر الليلِ
تعرّيني من الألوان و الظلّ
و تحميني من الذل!
و في عينيك، يا قمري القديم
يشدُّني أصلي
إلى إغفاءةٍ زرقاء
تحت الشمس.. و النخلِ
بعيداً عن دجى المنفى..
قريبا من حمى أهلي
-2-
تشهّيتُ الطفوله فيكِ.
مذ طارت عصافيرُ الربيعِ
تجرّدَ الشجرُ
وصوتك كان، يا ماكان،
يأتيني
من الآبار أحياناً
و أحياناً ينقِّطه لي المطُر
نقيا هكذا كالنارِ
كالأشجار.. كالأشعار ينهمرُ
تعالي
كان في عينيك شيء أشتهيهِ
و كنتُ أنتظرُ
و شدّيني إلى زنديكِ
شديني أسيراً
منك يغتفُر
تشهّيت الطفولة فيك
مذ طارت
عصافير الربيع
تجرّد الشجرُّ!
-3-
..و نعبر في الطريق
مكبَّلين..
كأننا أسرى
يدي، لم أدر، أم يدُكِ
احتست وجعاً
من الأخرى؟
و لم تطلق، كعادتها،
بصدري أو بصدرك..
سروة الذكرى
كأنّا عابرا دربٍ ،
ككلّ الناس ،
إن نظرا
فلا شوقاً
و لا ندماً
و لا شزرا
و نغطس في الزحام
لنشتري أشياءنا الصغرى
و لم نترك لليلتنا
رماداً.. يذكر الجمرا
وشيء في شراييني
يناديني
لأشرب من يدك
ترمّد الذكرى
-4-
ترجّلَ، مرةً، كوكب
و سار على أناملنا
و لم يتعبْ
و حين رشفتُ عن شفتيك
ماء التوت
أقبل، عندها، يشربْ
و حين كتبتُ عن عينيك
نقّط كل ما أكتب
و شاركنا و سادتنا..
و قهوتنا
و حين ذهبتِ ..
لم يذهب
لعلي صرت منسياً
لديك
كغيمة في الريح
نازلة إلى المغربْ..
و لكني إذا حاولتُ
أن أنساك..
حطّ على يدي كوكبْ
-5-
لك المجدُ
تجنّحَ في خيالي
من صداك..
السجنُ، و القيدُ
أراك ،استندتُ
إلى وسادٍ
مهرةً.. تعدو
أحسكِ في ليالي البرد
شمساً
في دمي تشدو
أسميك الطفوله
يشرئبّ أمامي النهدُ
أسميكِ الربيع
فتشمخ الأعشاب و الوردُ
أسميك السماء
فتشمت الأمطار و الرعدُ
لك المجدُ
فليس لفرحتي بتحيُّري
حدُّ
و ليس لموعدي وعدُ
لك.. المجدُ
-6-
و أدركَنا المساءُ..
و كانت الشمسُ
تسرّح شعرها في البحرْ
و آخر قبلة ترسو
على عينيّ مثل الجمرْ
_خذي مني الرياح
و قّبليني
لآخر مرة في العمر
..و أدركها الصباحُ
و كانت الشمسُ
تمشط شعرها في الشرقْ
لها الحنّاء و العرسُ
و تذكرة لقصر الرق
خذي مني الأغاني
و اذكريني..
كلمحْ البرقْ
و أدركني المساء
و كانت الأجراسْ
تدق لموكب المسبية الحسناءْ
و قلبي بارد كالماسْ
و أحلامي صناديقٌ على الميناء
_خذي مني الربيع
وودّعيني,,,……

يحكون في بلادنا

يحكون في شجن
عن صاحبي الذي مضى
و عاد في كفن
كان اسمه
لا تذكروا اسمه!
خلوه في قلوبنا
لا تدعوا الكلمة
تضيع في الهواء، كالرماد
خلوه جرحا راعفا… لا يعرف الضماد
طريقه إليه
أخاف يا أحبتي… أخاف يا أيتام
أخاف أن ننساه بين زحمة الأسماء
أخاف أن يذوب في زوابع الشتاء
أخاف أن تنام في قلوبنا
جراح نا
أخاف أن تنام

العمر… عمر برعم لا يذكر المطر
لم يبك تحت شرفة القمر
لم يوقف الساعات بالسهر
و ما تداعت عند حائط يداه
و لم تسافر خلف خيط شهوة …عيناه
و لم يقبل حلوة
لم يعرف الغزل
غير أغاني مطرب ضيعه الأمل
و لم يقل : لحلوة الله
إلا مرتين
لت تلتفت إليه … ما أعطته إلا طرف عين
كان الفتى صغيرا
فغاب عن طريقها
و لم يفكر بالهوى كثيرا

يحكون في بلادنا
يحكون في شجن
عن صاحبي الذي مضى
و عاد في كفن
ما قال حين زغردت خطاه خلف الباب
لأمه : الوداع
ما قال للأحباب… للأصحاب
موعدنا غدا
و لم يضع رسالة …كعادة المسافرين
تقول إني عائد… و تسكت الظنون
و لم يخط كلمة
تضيء ليل أمه التي
تخاطب السماء و الأشياء
تقول : يا وسادة السرير
يا حقيبة الثياب
يا ليل ! يا نجوم ! يا إله! يا سحاب
أما رأيتم شاردا… عيناه نجمتان ؟
يداه سلتان من ريحان
و صدره و سادة النجوم و القمر
و شعره أرجوحة للريح و الزهر
أما رأيتم شاردا
مسافرا لا يحسن السفر
راح بلا زوادة ، من يطعم الفتى
إن جاع في طريقه ؟
من يرحم الغريب ؟
قلبي عليه من غوائل الدروب
قلبي عليك يا فتى… يا ولداه
قولوا لها ، يا ليل ! يا نجوم
يا دروب ! يا سحاب
قولوا لها : لن تحملي الجواب
فالجرح فوق الدمع …فوق الحزن و العذاب !لن تحملي… لن تصبري كثيرا
لأنه
لأنه مات ، و لم يزل صغيرا

يا أمه
لا تقلعي الدموع من جذورها
للدمع يا والدتي جذور
تخاطب المساء كل يوم
تقول : يا قافلة المساء
من أين تعبرين ؟
غضت دروب الموت… حين سدها المسافرون
سدت دروب الحزن… لو وقفت لحظتين
لحظتين
لتمسحي الجبين و العينين
و تحملي من دمعنا تذكار
لمن قضوا من قبلنا … أحبابنا المهاجرين
يا أمه
لا تقلعي الدموع من جذورها
خلي ببئر القلب دمعتين
فقد يموت في غد أبوه… أو أخوه
أو صديقه أنا
خلي لنا
للميتين في غد لو دمعتين… دمعتين

يحكون في بلادنا عن صاحبي الكثيرا
حرائق الرصاص في وجناته
وصدره… ووجهه
لا تشرحوا الأمور!
أنا رأيتا جرحه
حدقّت في أبعاده كثيرا
” قلبي على أطفالنا ”
و كل أم تحضن السريرا
يا أصدقاء الراحل البعيد
لا تسألوا : متى يعود
لا تسألوا كثيرا
بل اسألوا : متى

تحيّة … و قبلة
و ليس عندي ما أقول بعد
من أين أبتدي ؟ .. و أين أنتهي ؟
و دورة الزمان دون حد
و كل ما في غربتي
زوادة ، فيها رغيف يابس ، ووجد
ودفتر يحمل عني بعض ما حملت
بصقت في صفحاته ما ضاق بي من حقد
من أين أبتدي ؟
و كل ما قيل و ما يقال بعد غد
لا ينتهي بضمة.. أو لمسة من يد
لا يرجع الغريب للديار
لا ينزل الأمطار
لا ينبت الريش على
جناح طير ضائع .. منهد
من أين أبتدي
تحيّة .. و قبلة.. و بعد
أقول للمذياع … قل لها أنا بخير
أقول للعصفور
إن صادفتها يا طير
لا تنسني ، و قل : بخير
أنا بخير
أنا بخير
ما زال في عيني بصر
ما زال في السما قمر
و ثوبي العتيق ، حتى الآن ، ما اندثر
تمزقت أطرافه
لكنني رتقته… و لم يزل بخير
و صرت شابا جاور العشرين
تصوّريني … صرت في العشرين
و صرت كالشباب يا أماه
أواجه الحياه
و أحمل العبء كما الرجال يحملون
و أشتغل
في مطعم … و أغسل الصحون
و أصنع القهوة للزبون
و ألصق البسمات فوق وجهي الحزين
ليفرح الزبون

قد صرت في العشرين
وصرت كالشباب يا أماه
أدخن التبغ ، و أتكي على الجدار
أقول للحلوة : آه
كما يقول الآخرون
” يا أخوتي ؛ ما أطيب البنات ،
تصوروا كم مرة هي الحياة
بدونهن … مرة هي الحياة ” .
و قال صاحبي : “هل عندكم رغيف ؟
يا إخوتي ؛ ما قيمة الإنسان
إن نام كل ليلة … جوعان ؟ ”
أنا بخير
أنا بخير
عندي رغيف أسمر
و سلة صغيرة من الخضار

سمعت في المذياع
قال الجميع : كلنا بخير
لا أحد حزين ؛
فكيف حال والدي
ألم يزل كعهده ، يحب ذكر الله
و الأبناء .. و التراب .. و الزيتون ؟
و كيف حال إخوتي
هل أصبحوا موظفين ؟
سمعت يوما والدي يقول
سيصبحون كلهم معلمين
سمعته يقول
( أجوع حتى أشتري لهم كتاب )
لا أحد في قريتي يفك حرفا في خطاب
و كيف حال أختنا
هل كبرت .. و جاءها خطّاب ؟
و كيف حال جدّتي
ألم تزل كعهدها تقعد عند الباب ؟
تدعو لنا
بالخير … و الشباب … و الثواب
و كيف حال بيتنا
و العتبة الملساء … و الوجاق … و الأبواب
سمعت في المذياع
رسائل المشردين … للمشردين
جميعهم بخير
لكنني حزين
تكاد أن تأكلني الظنون
لم يحمل المذياع عنكم خبرا
و لو حزين
و لو حزين

الليل – يا أمّاه – ذئب جائع سفاح
يطارد الغريب أينما مضى
ماذا جنينا نحن يا أماه ؟
حتى نموت مرتين
فمرة نموت في الحياة
و مرة نموت عند الموت
هل تعلمين ما الذي يملأني بكاء ؟
هبي مرضت ليلة … وهد جسمي الداء
هل يذكر المساء
مهاجرا أتى هنا… و لم يعد إلى الوطن ؟
هل يذكر المساء
مهاجرا مات بلا كفن ؟
يا غابة الصفصاف ! هل ستذكرين
أن الذي رموه تحت ظلك الحزين
– كأي شيء ميت – إنسان ؟
هل تذكرين أنني إنسان
و تحفظين جثتني من سطوه الغربان ؟
أماه يا أماه
لمن كتبت هذه الأوراق
أي بريد ذاهب يحملها ؟
سدّت طريق البر و البحار و الآفاق
و أنت يا أماه
ووالدي ، و إخوتي ، و الأهل ، و الرفاق
لعلّكم أحياء
لعلّكم أموات
لعلّكم مثلي بلا عنوان
ما قيمة الإنسان
بلا وطن
بلا علم
ودونما عنوان
ما قيمة الإنسان
ما قيمة الإنسان
بلا وطن
بلا علم
ودونما عنوان
ما قيمة الإنسان

كلمات قصيدة “انتظرها” للشاعر محمود درويش
بكوب الشراب المرصع باللازورد انتظرها
على بركة الماء.. حول السماء وعطر الكولونيا انتظرها
بصبر الحصان المعد لمنحدرات الجبال انتظرها
بذوق الأمير الرفيع البديع انتظرها
بسبع وسائد محشوة بالسحاب انتظرها
بنار البخور النسائي ملء المكان انتظرها
برائحة الصندل الذكرية حول الخيول انتظرها
ولا تتعجل فإن أقبلت بعد موعدها فانتظرها
وإن أقبلت قبل موعدها فانتظرها
ولا تجفل الطير فو جدائلها وانتظرها
لتجلس مرتاحة كالحديقة في أوج زينتها وانتظرها
لترفع عن ساقها ثوبها غيمة غيمة وانتظرها
وخذها إلى شرفة لترى قمراً غارقاً في الحليب
وانتظرها وقدم لها الماء قبل النبيذ
ولا تتطلع إلى ثوأمي حجل نائمين على صدرها
وانتظرها ومس على مهل يدها عندما تضع الكأس فوق الرخام
كأنك تحمل عنها الندى وانتظرها
تحدث إليها كما يتحدث نايٌ إلى وترٍ خائفٍ في الكمان
كأنكما شاهدان على ما يعد غدٌ لكما وانتظرها
إلى أن يقول لك الليل لم يبقى غيركما في الوجود
فخذها إلى موتك المشتهى وانتظرها
في الانتظار يصيبني هوس برصد الاحتمالات الكثيرة
ربما نسيت حقيبتها الصغيرة في القطار
فضاع عنواني وضاع الهاتف المحمول
فانقطعت شهيتها وقالت لا نصيب له من المطر الخفيف
وربما انشغلت بأمر طارئ أو رحلة نحو الجنوب
لكي تزور الشمس واتصلت ولكن لم تجدني في الصباح
فقد خرجت لأشتري جاردينيا لمسائنا وزجاجتين من النبيذ
وربما اختلفت مع الزوج القديم على شؤون الذكريات
فأقسمت أن لا ترى رجلاً يهددها بصنع الذكريات
وربما اصدمت بتكسي في الطريق إلي
فانطفأت كواكب في مجرتها وما زالت تعالج بالمهدئ والنعاس
وربما نظرت إلى المرآة قبل خروجها من نفسها
وتحسست الجاصتين كبيرتين تموجان حريرها
فتنهدت وترددت: “هل يستحق أنوثتي أحدٌ سواي؟!”
وربما عبرت مصادفةً بحبٍ سابقٍ لم تشفً منه فرافقته إلى العشاء
وربما ماتت! فالموت يعشق فجأةً مثلي.. إن الموت مثلي لا يحب الانتظار
لم تأتِ.. قلت: “ولن”.. إذن سأعيد ترتيب المساء بما يليق بخيبتي وغيابها
أطفأت نار الشموع.. أشعلت نور الكهرباء.. شربت كأس نبيذها وكسرته
بدلت موسيقى الكمنجات السريعة بالأغاني الفارسية
قلت: “لن تأتِ”.. سأنضو ربطة العنق الأنيقة.. هكذا أرتاح أكثر
أرتدي بيجامةً زرقاء.. أمشي حافياً لو شئت..
أجلس بارتخاء القرفصاء على أريكتها فأنساها وأنسى كل أشياء الغياب
أعدت ما أعددت من أدوات حفلتنا إلى أدراجها.. وفتحت كل نوافذي وستائري..
لا سر في جسدي أمام الليل إلا ما انتظرت وما خسرت
سخرت من هوسي بتنظيف الهواء لأجلها.. عطرته برذاذ ماء الورد والليمون
لن تأتِ.. سأنقل زهرة الأوركيد من جهة اليمين إلى اليسار لكي أعاقبها على نسيانها
غطيت مرآة الجدار بمعطفٍ كي لا أرى إشعاع صورتها وأندم
قلت: “أنسى ما اقتبست لها من الغزل القديم لأنها لا تستحق قصيدةً حتى ولو مسروقةً”
ونسيتها وأكلت وجبتي السريعة واقفاً وقرأت فصلاً من كتابٍ مدرسيٍ عن كواكبنا البعيدة
وكتبت كي أنسى إساءتها قصيدة.. هذه القصيدة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى