خطبة الجمعة.. بقلم الفاتح جبرا

السودان اليوم:

الحمد لله الذي جعل هذه الحياة دارَ تكليفٍ وفناء، والآخرة دارَ جزاءٍ وبقاءٍ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وعدَ عبادَه المتقين بالجزاء الأوفى، وأشهد أن نبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه العبدُ المُصطفى، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك عليه وعلى آله وأصحابِهِ أهل البرِّ والتقوى.
أما بعد أيها المسلمون:
إن الناظر المتأمل إلى هذا الزمان الذي نعيش فيه يجد أننا في عصر تغلَّبَت فيه المصالحُ الذاتيَّةُ عند كثيرٍ من الناس على القِيَم الدينية والمعايير الأخلاقية، وأن معظم الناس قد لستهواهم الاستغراقَ في السَّير وراءَ زخارِف الدنيا الفانية، عليها يُوالون ويُعادون، ومن أجلها يُقدِّمون ويُؤخِّرون، بسببها يتصارَعون، ومن أجلِها ولتحصيلِها يتنازَعون.
لقد أصبح معظم الناس يتكالبون على متاع هذه الحياة الزائِلة، وليس هنالك أخطر للمسلم من أن يجعلَ الدنيا أكبر همِّه، ومبلغَ علمه، ومحورَ سعيه، وغايةَ وجوده، يقول -جل وعلا- مُتوعِّدًا من هذا شأنُه: (وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ * الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ) [إبراهيم: 2، 3]، ويقول – سبحانه – في هذا الشأن: (إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) [التغابن: 15].
ولقد تعوَذ نبيُّنا – صلى الله عليه وسلم – من هذه الحال المُزرِية، فقال – عليه الصلاة والسلام: (اللهم لا تجعل مُصيبتَنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همِّنا، ولا مبلغَ علمِنا)
معاشر المسلمين:
من غلبَه حبُّ دُنياه على حبِّ دينه، وقدَّم شهواته على طاعة مولاه؛ فقد وقعَ في حبائلِ الشيطان شر وقعة يقول ربُّنا – جل وعلا – ناهياً المُسلمَ عن هذه السبيل: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ) [فاطر: 5].
كما روى البخاري عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: (تعِسَ عبدُ الدينار، تعِسَ عبدُ الدرهم، تعِسَ عبدُ الخميصة، تعِسَ عبدُ الخَميلة، إن أُعطِيَ منها رضِي، وإن لم يُعطَ لم يرضَ)
عباد الله:
ما أحوجَنا في هذا العصر الذي طغَت فيه الحياةُ الماديَّةُ أن نسلك طريق رِضا الرحمن، مُهتدِين بسُنَّة النبي الكريم -عليه أفضل الصلاة والتسليم، بالله عليكم اسمعوا لهذه الآية سماعَ تذكُّرٍ وتدبُّرٍ، يقول سبحانه وتعالى: (إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) [يونس: 7، 8].
مما لا شك فيه – عباد الله – إن تعلُّق القلوب بالدنيا وملذَّاتِها إن لم يكن محكومًا بالأخلاق الإسلامية؛ فإنه يجرُّ العبدَ إلى كل صفةٍ ذميمةٍ وفعلةٍ قبيحةٍ، وإلا فهل بخِلَ من بخِلَ عن الزكاة المفروضة إلا بسبب حبِّ الدرهم والدينار؟! هل حصلَ ظلمُ العباد إلا بسبب تغليبِ هذه الدنيا الفانِية وحبِّ شهواتها المُضمحِلَّة؟! وهل ارتكب البعضُ الكذِبِ والغشِّ والخِداع والحسَد والنفاق إلا بسبب سيطرة هذه الدنيا الزائلة وهذا الحُطام الفانِي؟!
فحبُّ الدنيا إن لم تقيده أحكام الإسلام فهو رأسُ كل خطيئةٍ، روى البخاري عن أبي سعيدٍ – رضي الله عنه – قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: (إن أكثرَ ما أخافُ عليكم: ما يُخرِجُ الله لكم من بركات الأرض). قيل: وما بركاتُ الأرض؟! قال: (زهرةُ الدنيا).
فيا معشر المسلمين: يجب علينا أن نتعقَّلُ، ونتذكَّر حقيقة هذه الدنيا، وأنها دارٌ محفوفةٌ بالمصائِب، مليئةٌ بالرَّزايا، مُحاطةٌ بالمخاوِف والمخاطِر؟ وأن نتبع المنهَج القوِيم حتى لا نغترَّ بزخارِفِها وبهارِجِها الخدَّاعة عن نَيْل وطلب دار البقاء والخلود.
يقول جل من قائل: (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ) [آل عمران: 185].
فوالله ما أقبلَ عليها امرؤٌ مُعرِضًا عن أوامر الله جل وعلا، واقعًا في نواهِيه، وما أقبلَت عليها أمةُ الإسلام مُبتعِدةً عن منهج الدين إلا كانت الندامةُ عظيمة،ُ والحسرةُ كبيرة والعاقبة وخيمة.
يقول الله عز وجل عن الذين طغَوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد: (فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ) [الفجر: 13، 14].
أيها المسلمون:
إن ميزانُ السعادة الأبديَّة هو رضاء الخالق عن العبد، هو القيامُ بأمور الدين، والسَّيرُ في هذه الحياة وفقَ الضوابِط الشرعيَّة والأحكام النبويَّة؛ فمن ضلَّ عن هذا الطريق فهو مُتوعَّدٌ بالعذاب يوم الحساب، يقول جل وعلا: (فَأَمَّا مَنْ طَغَى* وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى* وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى* فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى) [النازعات: 37- 41].
اللَّهُمَّ اقْسِمْ لَنَا مِنْ خَشْيَتِكَ مَا يَحُولُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ مَعَاصِيكَ، وَمِنْ طَاعَتِكَ مَا تُبَلِّغُنَا بِهِ جَنَّتَكَ، وَمِنَ الْيَقِينِ مَا تُهَوِّنُ بِهِ عَلَيْنَا مُصِيبَاتِ الدُّنْيَا، وَمَتِّعْنَا بِأَسْمَاعِنَا وَأَبْصَارِنَا وَقُوَّتِنَا مَا أَحْيَيْتَنَا وَاجْعَلْهُ الْوَارِثَ مِنَّا، وَاجْعَلْ ثَأْرَنَا عَلَى مَنْ ظَلَمَنَا، وَانْصُرْنَا عَلَى مَنْ عَادَانَا، وَلَا تَجْعَلْ مُصِيبَتَنَا فِي دِينِنَا، وَلَا تَجْعَلِ الدُّنْيَا أَكْبَرَ هَمِّنَا وَلَا مَبْلَغَ عِلْمِنَا، وَلَا تُسَلِّطْ عَلَيْنَا مَنْ لَا يخافك ولا يَرْحَمُنَا.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه غفور رحيم، وأقم الصلاة..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى