حقيقة وراثة الامراض النفسية 2019

هل المرض النفسى وراثى؟
إن هذا السؤال الذى يخطر على بال كل مريض، وكل قريب لمريض، وكل قادم على الارتباط بأى منهما لهو أولى الأسئلة بالإجابة المحددة الواضحة.
وهو سؤال له حجمه العلمى كذلك، فإن الصراع حوله بين المدارس المختلفة مازال على أشده، فالمدارس التى ترجع أسباب الأمراض النفسية وطبيعتها إلى أصل عضوى تتخذ حقيقة ظهور نفس المرض عند أكثر من فرد فى الأسرة الواحدة، يتخذونها ذريعة للتدليل على أن المرض النفسى عضوى تماماً، فى حين أن المدارس النفسية التحليلية تحاول أن تنفى ذلك تماماً وتعزو ظهور المرض فى الأسرة الواحدة إلى أن المريض يسئ تربية الجيل التالى فيظهر المرض..، وهكذا تمتد الخلافات بلا حل ظاهر.
وفى الحقيقة أن الدراسات المقارنة ترجح الاتجاه الأول بصورة عامة، ولن ينبغى أن يكون هناك توضيح، وتصحيح.
فمثلا يمكن القول إنه لا توجد أسرة، بالبعد العريض، تخلو من وجود مرض نفسى أو عقلى بالمفهوم الشامل – وعلى ذلك، فالناس كلهم عرضة للمرض النفسى.
كذلك، فإنه لا يوجد حتم فى وراثة المرض النفسى إلا فى حالات عضوية نادرة ندرة عظيمة مثل شلل هانتنجتون الرعاش المصاحب بالعته.
إلا أن دراسة التوائم المتماثلة تشير إلى أنه فى حوالى 75% من الحالات النفسية (والعقلية) التى تصيب أحد التوأمين، يصاب الثانى بنفس الحالة، وتقريباً فى نفس السن وربما بنفس الأعراض.
ما معنى كل هذا؟
إذا استثنينا ضعف العقل الوراثى الذى له تفسيرات متنوعة ومتعددة، واستثنينا الأمراض العقلية التى تنشأ نتيجة مباشرة لالتهاب أو إصابة أو ورم، وركزنا على الأمراض العقلية والنفسية الوظيفية التى تؤكد الدراسات أهمية العامل الوراثى فيها، فإننا يمكن ان نوضح بعض الغموض حول هذه المسألة.
إن الذى ينقل الصفات الوراثية هى الجينات، التى هى بالتالى تركيب بروتينى معقد فى الخلية، واختلاف كل منها عن الآخر هو اختلاف كيميائى – وربما فيزيائى دقيق، وهى تتأثر بالمؤثرات الخارجية بطرق مختلفة.
وفى حالة الأمراض النفسية، فلابد أن هذه التجينات (المورثات) التى تنتقل من جيل إلى جيل مرتبة ترتيباً يهيئ لسلوك مرضى معين، ولكن هذا السلوك يمكن أن يظهر إذا غذته البيئة وهيأت لظهوره، ثم زاد الضغط حتى ترسب المرض وأعلنت مظاهره.
ولكن اصحاب مدارس التحليل النفسى، وخاصة الاتجاه الحديث يؤكدون أهمية ارتباط التربية بالتهيئة للمرض النفسى ويقولون إن افتقار الطفل فى الشهور الأولى للأمان فى علاقته بأمه يهيئ لمرض الفصام أو التشكك وأن رغبته العدوانية تجاهها مع كبتها قد يهيئ لمرض الاكتئاب وغير ذلك من مواقف يرجعون إليها أصل الأمراض ويفسرون بها معظم الأعراض.
حقيقة وراثة الامراض النفسية 3dlat.net_05_16_b3bf

كيف يمكن التوفيق بين هذا وذاك؟ أين الحقيقة؟
لعل الحقيقة فى أن الوراثة كانت فى الأصل تأثير بيئى متصل على مر الأجيال… ولو قبلنا ذلك التفسير – وهناك مايبرره من أراء وأبحاث لا مارك، وهربرت سبنسر، ووود جونس معارضين فى ذلك رأى فيسمان بثبات الوراثة – فإن التقارب والتفاعل بين المتناقضات – يجعل الصورة أكثر إشراقاً.

حقيقة وراثة الامراض النفسية 3dlat.net_05_16_b3bf
ولنضرب مثلا تاريخياً يوضح ذلك:
إذا ذهب إنسان أبيض وعاش فى خط الاستواء مع زوجته البيضاء، فإن جلده سرعان ما سيميل إلى السمرة، ولكنه سنجب أولاداً بيضاً تمام البياض. ولكنهم بالتالى سرعان ما سيصبحون أكثر سمرة بعدت التعرض المستمر للشمس، فاذا أنجب هؤلاء الأبناء فإن ذريتهم ستصبح أكثر وأكثر سمرة وهكذا على مر الأجيال نجد أن الآباء سمر، والأبناء سود.. وتتغير الجينات بهذا التأثير البيئى، بدليل أنه إذا ذهب هؤلاء الأحفاد، أو أحفاد الأحفاد، إلى بلاد الشمال فإنهم ينجبون أولاداً سمراً أو سوداً رغم غياب الشمس الطويل وهذا المثل يوضح ما نعنيه من أن الوراثة ما هى إلا تأثير بيئة مستمر، تميز فى تكوين الجينات.. فأصبح يورث من جيل لجيل وهذا هو الرأى الأرجح فى نظريات الوراثة.
فإذا كان الأمر كذلك فى لون البشرةن فلا بد أن يكون كذلك فى طريقة السلوك.
والمرض النفسى هو طريقة للسلوكن والاستعداد له موجود فى تركيب المخ.. وموروث عبر الأجيال، وبالتالى فإن التربية الأولى تهيئ لما هو موجود وتنميه، فتشترك بذلك البيئة فى تكوين وتحوير ما هو قائم من ميول معينة فى الجهاز العصبى المركزى، ثم تجئ ظروف الحياة وضغوطها ليظهر هذا الاستعداد فى صورة سلوك مرضى معين، كما أن نفس الاستعداد قد يؤدى إلى تطور ثورى معين.
حقيقة وراثة الامراض النفسية 3dlat.net_05_16_b3bf

ولنضرب مثلا لوراثة استعداد لسلوك معين.. كان تفاعلا بيئياً فى أول الأمر:
إن الإنسان الأول حين كان يدافع طوال ليله ونهاره عن وجوده وكيانه ضد أبناء جنسه وضد العالم الخارجى بوجه عام، كانت تصرفاته كلها خوف وترقب، وكان لسان حاله يقول: الناس من حولى تريد مهاجمتى، تريد أن تسحقنى، تتربص لى، إن لم أهاجمهم قتلونى، النظرات تلاحقنى.. إلى آخر.
هذا الموقف الحذر المتحفز الذى تفسره ظروف حياته البدائية، وصراعه نحو البقاء، غير أن نفس هذا التصرف الآن لو حدث لإنسان متحضر ليس فى حياته ما يبرر ظن السوء فإننا نسميه مريضاً… فما الذى حدث؟
إن تكرار ذلك الموقف الحذر المهاجم على مر الآجيال والسنين جعل الإنسان الاول ينظم جهازه العصبى فى مرحلة ما من تاريخه بطريقة ترجح الشر فى العالم الخارجى وتستجيب لأى مؤثر بحذر وعدوانية، ثم ينتقل هذا النظام المعين فى الجهاز العصبى إلى أجيال لاحقة يمكن تحت ضغط ظروف معينة أن تتخذ هذا الموقف الحذر، حتى لو كان الإنسان فى مرحلة تطور لا تتطلبه.. بل تعتبره شذوذاً أو مرضاً.
إذاً، فإن ترتيب الجينات فى مرحلة معينة للتطور كان نتيجة سلوك طبيعى للحفاظ على الجنس والذات، وتغير الظروف وإعادة ترتيب الجهاز العصبى على مر الأجيال – نتيجة لهذه الظروف المتغيرة لن يقضى على الترتيب السابق للتطور فى الحال، ولكنه سوف يبطل مفعوله مستقلا إذ لم تعد للانسان به حاجة وسيدخله فى الكل الجديد، وهنا يصبح إنسان اليوم حاملا – ولكن بصورة كامنة ومضبوطة – لاستعدادات وميول سابقة تحددها الجينات الموروثة.
ولنا بعد ذلك أن نتصور أن قبائل بأسرها وعشائر، مرت بظروف بيئية جعلت هذا التنظيم فى الجهاز العصبى أقوى وأثبت وبالتالى جعلت سلالتها أكثر حذراً وعدوانية، فى حين أن غيرها مال إلى سلوك آخر.. ثم تفرعت القبائل والعشائر إلى أسر تحمل درجات متباينة من أنواع مختلفة من السلوك الكامن.
إذاًن فيمكن الفرض أن الوراثة فى الأمراض النفسية ما هى إلا “سلوك كامن” نتج عن ترتيب معين للجينات فى الجهاز العصبى نتيجة لظروف التطور فى الأغلب.
وإذا كان الأمر كذلك. وهو فى نظرى كذلك – فلابد أننا نعيش إشراقة أمل جديدة، ومسئولية خطيرة فى نفس الوقت فلن يقف تطور الإنسان على مر الأجيالن وبذلك يصبح امتدادنا فى الأجيال، وتفاؤلنا بالمستقبل معيناً له على بذل الجهد الجاد المستمر نحو حياة أرحب وأكثر إنسانية بل نحو نوع أرقى، إذ أن سلوك اليوم هو جينات المستقبل.
* * *
وهكذا، يحدث التصالح بين تأثير البيئة والوراثة، وتصبح الوراثة بيئة منقولة عبر المورثات، والبيئة وراثة محتملة..
وبهذا، يخفف إخواننا علماء التحليل النفسى من التأكيد على تأثير مراحل معينة للتثبيت أثناء الطفولة، وعلى نوع معين من العلاقات ينشأ عن طريق ارتباط الطفل بأمه فى الشهور الأولى، فرغم الأهمية القصوى لفرضهم هذا إلا أنه لا يمكن بحال أن يفسر كل الاضطرابات دون الأخذ فى الاعتبار استعداد معين لسلوك معين نتيجة لتركيب معين بالجهاز العصبى، ولكن الذى يحدث أن هذا الاستعداد أو ذاك تنميه طريقة السلوك والتربية منذ الأشهر الأولى، وإلى وقت ظهور المرض، كما أن العوامل المرسبة أو المهيرة (التى يظهر على أثرها المرض مباشرة) تثير هذا السلوك الكامن فيظهر المرض.
* * *حقيقة وراثة الامراض النفسية 3dlat.net_05_16_b3bf
وإنى إذ أقدم فكرة هذا التصالح بين الوراثة والبيئة فى أسباب الأمراض النفسية من زواية التطور أحب أن أشير إلى حقيقة مشرقة وسط هذا الضباب، وهو أنه ثبت أن بعض أقارب المرضى النفسيين متميزون بشكل أو بآخر فى مجال أو أكثر من مجالات التحصيل العلمى أو الخلق الفنى. مما قد يشير إلى أن الوراثة، فى الذهان الوظيفى، قد لا تكون للمرض ذاته ولكن لنوع من الطاقة يمكن توجيهه للأحسن.. وتنبع هذه الفكرة مثل سابقتها من مفهوم التطور.
فالوراثة لها أهمية بالغة فى الاستعداد للمرض النفسى.. ولكنها ليست حتما مرعباً.
والبيئة تتحكم فى ظهور المرض، وكذا فى توقيته، ولكنها ليست وحدها المسئولة.
والبيئة والوراثة لا يمكن فصل تأثيرهما لا فى الفرد الواحد، ولا على مدى الأجيال.
ولسوف ننتصر على مخلفات التطور، وينبض الإنسان بالصحة الإيجابية.. ولن يقتصر أملنا على التحكم فى طارئ المرض لفرد بذاته، ولكنها الصحة، سوف توجه الوراثة إلى الانتصار على الإنسان الحالى حتى بعد ملايين السنين.
وها نحن نبدأ.. أو نواصل البداية.
ولسوف نصل.
وحتى ذلك الحين، دعونا نرى إنسان المستقبل أسعد وأرقى واكثر سمواً..
أو على الأقل لا تحرمونا من الأمل.. حتى نجد معنى للحياة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى