ثَانِيَ اثْنَيْنِ

ثَانِيَ اثْنَيْنِ

الجهــاد فى النيَّـة

قال رسول الله لنا ولمن بعدنا وللمسلمين أجمعين{ لاهِجرةَ بعدَ الفتحِ ولكنْ جِهادٌ ونيَّة[1]بعد فتح مكة وكان فى سنة ثمان منالهجرة النبوية لم يعد هناك هجرة مكانية وإنما أصبحت الهجرة كلها فى النيَّة فبيَّنالنبى لأمته فضل النية وأنها روح كل الأعمال التى يتوجه بها المرء إلى رب البريةفالأعمال كالأجسام الجسم ظاهره الأعضاء وروحه التى تحركه وتسيره هى الروح التىنفخها فيه الحى القيوم كذلك أعمال العباد نحو رب العباد ظاهرها أوامر الشرع التىأمرنا بها الله وكلفنا بها فى كتابه أو على لسان حبيبه ومصطفاه وباطن الأعمال الذىلا حياة لها إلا به هو النية فالنية روح الأعمال ولذا قال الحبيب{إنَّمَا الأعمَالُ بالنِّيَّات وَإِنَّمَا لكل امرىء ما نَوَى فَمنْكَانَتْ هِجْرَتُهُ إلى الله وَرَسُولِهِ فَهَجْرَتُهُ إلى الله وَرَسُولِهِ وَمَنْكَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيبُهَا أو امْرَأةٍ يَتَزَوَّجُهَا فَهِجْرَتُهُ إلى مَا هَاجَرَ إلَيْهِ}[2]فالعمل بالظاهر امتثال لأمر الشارع الأعظم واقتداء بالحبيب لكن ثوابه وأجره وفتحه وقبوله كل ذلك يتوقف على نية العامل فيه إنكان يريد به رضاء الناس والسمعة والشهرة عند الخلق كان عمله رياءاً فالرياء هوالعمل من أجل الخلق أى لا يقصد به إلا الخلق لا نية فيه من قريب أو بعيد للحق كل همه وبغيته فيه العمل الخلق وفي مثله يقول النبى{مَنْ صَلَّى يُرَائِي فَقَدْ أَشْرَكَ ومَنْ صَامَ يُرَائِي فَقَدْ أَشْرَكَ وَمَنْ تَصَدَّقَ يُرَائِي فَقَدْ أَشْرَكَ}[3]والحديث بيان لقول الله جل فى علاه{فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً}وشرط قبوله{وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً}أى لا يجعل فى نيته عند توجهه للعمل أو قيامه به رغبة فى السمعة عند الخلق أوأوالتفاخر أو التظاهر أو حتى الإعجاب بنفسه لأنه يعمل هذا العمل دون غيره لأن هذا فىنظر الله وفى كتابه شرك لا يُقبل العمل به وقد قال فيه النبى : يقول الله تعالى فىحديثه القدسى{ أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ . مَنْ عَمِلَ عَمَلاً أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ }[4]كل من عمل عملاً أشرك فيه مع الله فى الوجهة والقصد الخلق أو النفس أو السمعة أو حب الظهور فإنه بذلك حُرم القبول فى هذا العمل لأنه لم يأتى بالمواصفات الربانية التى اشترطها رب البرية لقبول الأعمال من حميع البرية وهى الإخلاص، والإخلاص يعنى أن يطلب بالعمل وجه الله{فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}وهذا العمل قد يظن البعض أنه فى العبادات وهل هناك للمؤمن عمل ليس داخل فى باب العبادات؟ إن المؤمن لو أخلص لله القصد والنية كانت حركاته وسكناته كلها بالكلية عبادة وطاعة لرب البرية حتى تناول الطعام وحتى نكاح زوجته وحتى مداعبةأولاده وحتى تخفيف الحزن عن مصاب وعيادة المريض كل عمل يستطيع الإنسان أن يجعله عملاً صالحاً متقبلاً عند الله إذا سبقه بنية خالصة، بأن يبغى بهذا العمل وجه الله والدار الآخرة ثم بعد ذلك يبغى إرضاء الخلق لا بأس المهم أن ينوى أولاً وجه الله والدار الآخرة فلو عملت عملاً أبغى به وجه الله – وكنت قدوة فى مكانى – وعملت هذاالعمل أمام غيرى ليقتدوا بى كان لى أجرين فهناك فرق بين ذلك وبين الرياء فالرياء هوالذى لا يقصد صاحبه من وراء العمل إلا الخلق كأن يصلى ليقولوا عليه رجل صالح وإذالم يروه ربما لا يُصلى ولذلك وضع الأئمة الكرام ميزاناً للأُمة فى هذا المقام فقالوا: من عمل العمل فى الظاهر أمام الخلق، وإذا عمله فى الخفاء لا يزيد عن ذلك أىأن عمله أمام الخلق كعمله بمفرده أمام الحق، فهذا هو الإخلاص أما إذا كان يعمل العمل أمام الحق، وإذا رآه الخلق زاد فى تحسينه وزاد فى تهيئة نفسه، فهذا داخله نوع من الرياء – ليس كله رياء – ولابد أن ينزه نفسه عنه، أو إذا عمل العمل ورآه الناس تشجع واستمر فيه، وإذا عمله بمفرده لم يواصل وانقطع فهذا فيه شبهة رياء لأنه يقصدبالعمل وجه الله لكن الأتم والأكمل والأفضل أن يعمل العمل يبغى به وجه الله سواءعمله أمام الحق فقط أو أمام الحق والخلق، فإنه لا يبغى فى كلتا الحالتين إلا ابتغاءوجه مولاه جل فى علاه وهذا ملحظ دقيق يلاحظه الصالحون فى كل زمان أو مكان ليُخلصواالأعمال لله فإن الله ضرب مثلاً للعمل الخالص وقال فيه مُشبهاً له{مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَناً خَالِصاً سَآئِغاًلِلشَّارِبِينَ}يصنع الله اللبن الذى نشربه من بين الروث الموجود فى كرش الحيوانات والدم الذى يجرى فى عروقها، لو وجدت فى اللبن قليلاً من الدم لا تستطيعأن تشربه ولا تستسيغه ولو وجدت فيه ولو قليلاً جداً من الروث لا تستطيع أن تشربهولا أن تبلعه، ولكن الله خلَّصه من ذلك وذلك، مع أنه خرج من بينهما ليعرفنا كيفيةالإخلاص لرب البرية وأشار فى ذلك الصالحون إشارة عالية فى هذا المعنى القرآنى – وإن كان المعنى الظاهرى لا نهمله بل نقره ونعترف به – فقالوا: الدم إشارة إلى النفس يجرى من ابن آدم مجرى الدم والفرث إشارة إلى الجسم لأنه يتغذى من هذه الأشياء التى تخرجها بطن الأرض، فإذا كان العمل يتلذذ به الجسم، ويظهر به ويحصل صاحبه على الإعجاب بسببه، فهذا العمل ليس خالصاً لله فالعمل بالجسم يراه الخلق، وإذا كان العمل ليراه الخلق ففيه شبهة، وإذا كان العمل لتَطَلُع فى النفس كحب الشهرة وحب السمعة أو الإعجاب بالنفس أو حب المدح أو حب الثناء كان أيضاً عملاً فيه شائبة رياءولكى يكون العمل خالصاً لله ينبغى ألا يكون فيه حظ لا للنفس ولا للجسم، بل يكون الإنسان يبغى به وجه الله والذى يتمتع به القلب الصافى الخالى من النزغات والنزعات،الذى يتوجه به صاحبه إلى مولاه جل فى علاه فهجرة المؤمن الدائمة فى كل لمحة وفى كل طرفة إلى الله، لأنه فى كل لمحة أو طرفة يتوجه بجارحة من جوارحه إلى حضرة الله بعمل إما عمل يخرج من اللسان وإما عمل تفعله العين وإما خطاب تستنصت وتستمع إليه الأذن وإما عمل باليد وإما عمل بالقدم وإما عمل بالفرج وكل هذه الأعمال يستطيع المؤمن أن ينال بها رضاء الواحد المتعال إذا سبقها بنية صادقة صالحة فى هذا العمل يبتغى بهارضاء الله ثم يتممها على نهج الحبيب نية ثم اقتداء بخير البرية بهذا ينال العبدالأمنية وقد قال الله له قل لهم{قُلْ إِنَّصَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ }فحياته كلها لله بل موته كله لله كلمة الموت تعنى النوم لأنه إذا نام فإنما يستعين بالنوم على القيام لطاعة من لا تأخذه سِنة ولا نوم فيكون نومه أيضاً لله لأنه ينام رغبة فى القيام بعد ذلك بنشاط فى طاعة الله ولذلك كان النبى يقول{إنَّ عَيْنَيَّ تَنام وانِ وَقَلْبي لا يَنامُ}[5]إذا كان العمل لله لا يستطيع أجره ولا نوره ولا ثوابه غيرالله حتى الملائكة المقربين لا اطلاع لهم على ذلك، والدليل أن الإنسان عندما يصوم ولا يعلم حقيقة الصيام إلا الله الذى لا تخفى عليه خافية، يقول فيه الله جل فىعلاه{ كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ، إِلاَّ الصَّوْمَ فَإِنَّهُ لِى، وَأَنَا أَجْزِى بِهِ }[6]أى أنا الذى أضع جزاءه وثوابه لأنه لا يستطيع وضع ذلك الثواب غيرى، حتى الملائكة لا يعرفون ذلك أو إن شئت قلت أن معنى(وَأَنَا أَجْزِى بِهِ)أنا ورؤية وجهى ومشاهدة جمالى وجلالى وكمالى هو جزاء الصائمين وهذا فى قول النبى{ لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ: فَرْحَةٌ عِنْدَ فِطْرِهِ وَفَرْحَةٌ عِنْدَ لِقَاءِ رَبِّهِ }[7]فهذا أجر لا يستطيع أحد نعته ولا وصفه لأنها خصوصية من الله لصاحب هذاالمقام وكل أعمال المُخلِصين والمُخلَصين وورد فى الأثر(أن الإخلاص سر من أسرارى أستودعه قلب من أحب من عبادى لا يطلع عليه شيطان فيفسده ولاملك فيكتبه[8]لأن المَلك لا اطلاع له على القلوب وإنما يرى الأعمال ويسجلهاكما يراها فى الظاهر أما الباطن فلا يعلمه إلا من يقول للشئ كن فيكون{فَمَنْ كانتْ هِجْرَتُه إِلى دُنْيَا يُصِيبُها أَوْ إِلى امْرَأَةٍيَنْكِحُها – أو ما شابه ذلك من الأمور الدنيوية –فَهِجْرَتُه إِلى ما هاجَرَإِلَيه }فكان الصالحون فى كل زمان ومكان لهم فى بداية العام الهجرى وقفةصادقة لتصحيح مراد النفس ونواياها وطواياها لتستعيد مكانتها عند مولاها وخالقهاوبارئها فيسارعون إلى تخليص القلوب – وهى موضع الطوايا والنوايا – من كل شائبة تشوبالأعمال والأحوال والأقوال عند صدورها لأنهم يراعون علام الغيوب حتى يَصلون إلى المقام العلى الذى يقول فيه المولى فى كتابه القرآنى{وَقُلِاعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ)أى يجب أن تعمل وتعلم علم اليقين أن العمل الذى تعمله أو ستعمله فيما يستجد من أيامك ويُستقبل من عمرك سيراه الله ورسوله والمؤمنون بهذه الكيفية أى اجعل الله أول قصدك،والتأسى بالحبيب غاية مرادك، والخلق إن كنت تريد أن يتأسوا بك ويقتدوا بك فهى فى المرتبة الدنيا من نواياك وطواياك وأحوالك، تصيب القصد وتحقق المراد لأن هذا هوالمنهج الذى وضعه الله للسابقين والمقربين فى كل زمان ومكان، إذا غيَّر المرء هذاالنسق وجعل غايته العظمى الخلق وادَّعى بعد ذلك أنه يريد بعمله الحق فإنه يغش نفسه{ مَنْ غَشَّنا فَلَيسَ مِنَّا }[9]فأول العام الهجرى وقفة مع النفس راجع نفسك وراجع أعمالك التى عملتها فى العام المنصرم وضع لنفسك قاعدة تنال بها رضاء الله فيما يُستقبل من الأيام واعلم علم اليقين أن الخلق أجمعين لو اجتمعوا على أن يُثيبوك على عمل ولو تسبيحة واحدة لله ما استطاعوا أجمعين واعلم أن الخلق أجمعين لو التفوا حولك وأحاطوا بك ما استطاعوا أن يُقربوك قدر أنملة لرضاءرب العالمين فاقصد الله وعامل الله بإخلاص وصدق ويقين بمثل ذلك يجدد الإنسان أحواله، بتجديد نواياه لله ولذلك كان بعض الصالحين لا يخرج من بيته متوجهاً إلى أى عمل حتى يُحقق نواياه ويقول فى ذلك{إنى لا أخرج من بيتى إلا إذا استجمعت سبعين نيةكلها لله )وسبق الصالحين ليس بالكم ولكن بهذه النوايا على سبيل المثال: لماذا أذهب إلى الندوات الدينية؟أذهب لطلب العلم وطالب العلم فى سبيل الله حتى يرجع هذه نيةأذهب للتوادد فى الله والزيارة للإخوان الصادقين فى الله وفيها يقول{مَن عَادَ مَرِيضاً أَوْ زَارَ أَخاً لَهُ في الله نَادَاهُ مُنَادٍأَنْ طِبْتَ وَطَابَ مَمْشَاكَ وَتَبَوَّأْتَ مِنَ الْجَنَّةِمَنْزِلاً[10]أذهب لأقف على نفسى أعرف ما لها وما عليها ومحاسبة النفس أساس وضعه النبى الكريم لأصحابه وأحبابه المباركين إلى يوم الدين أن المرء يكون له وقت يحاسب فيه نفسه فى كل يوم وليلة على ما قدَّم وعلى ما فعل فإن وجد خيراً حمد الله تعالى على ذلك وإن وجد غير ذلك تاب واستغفر الله تعالى من ذلك فيدخل فى قولالله{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ}أذهب لأُطهر قلبى وأدخل فى قول رب العالمين فى جماعةالحاضرين{وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍمُّتَقَابِلِينَ}نوايا لو أخذنا فى استجماعها ما استطعنا تعدادها ولا سردها لأن النوايا التى تجيش فى قلوب الصالحين لا يستطيع أحد أبداً عدَّها لكن الرجل الصالح يعيش فيها ويحيا بها ولذلك قال رجل من تلاميذ أحد الصالحين[يا سيدى إن القوم يسئلون عن الطريق وعلومه وأذواقه ومشاربه وفتوحاته فبِمَ أقول لهم فقال :قل لهم من لم يذق طعم العسل هل يستطيع وصفه؟ فسيقولون: لا، فقل لهم: كيف يستطيع وصفه؟ فسيقولون: إذاذاقه قال فقل لهم إن الطريق وفتحه لا يستطيع الحديث عنه ولا وصفه إلا من ذاقه فهوكالعسل]ليس علماً نظرياً وليس سرد برهان يحتاج إلى أدلة وبراهين ولكنه علم ذوقى يقول فيه الله{إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً}فأثبت الله أن أدوات تحصيل العلم ثلاث:السمع من الغيروالبصر فى الكتب أو فى الآفاق ثم الفؤاد وهو يتلقى من المَلك الخلاق فأثبت للفؤاد أنه وسيلةمن الوسائل التى يُحصل بها العلم ويُحصل بها الفهم ويُحصل بها الذوق ويُحصل بهاالشهود ولكن ذلك لأهله الذين خاضوا غماره ومشوا على منوال الحبيب فى عطاءه فأعطاهم الله الجنى الدانى الوارف لأهله لأنه طعام لا يناله بالذوق إلا من صفا ذاته ومشى على منهج أهله فى عطاءه ونواله.

[1] صحيح البخارى عن ابن عباس وصحيح مسلم عن السيدة عائشة رضى الله عنهم.

[2] صحيح البخارى عن عمر بن الخطاب رضى الله عنهما.

[3] مسندالإمام أحمد عن شداد بن أوس رضى الله عنهما.

[4] صحيح مسلم عن أبي هريرة

[5] مسند الإمام أحمد عن السيدة عائشة رضى الله عنهما.

[6] صحيح البخارى عن أبى هريرة رضى الله عنهما.

[7] الصحيحين البخارى ومسلم عنأبى هريرة رضى الله عنهم.

[8] ورد فى الخبر عن الحسن {الْإِخْلَاصُ سِرٌّمِنْ سِرِّي أَسْتَوْدِعُهُ قَلْبَ مَنْ أَحْبَبْتُهُ مِنْ عِبَادِي}

[9] صحيح ابن حبان عن عبد الله بن عمر رضى الله عنهم.

[10] سنن الترمذى عن أبىهريرة رضى الله عنهما

اخلاص القصد والنية

فالشاهد أن الإنسان فى بداية العام يُصفى قلبه لمولاه وإذا صفا القلب فإن الله يعمره بالنوايا الخالصة لا يجلس الرجل العارف مع نفسه ويعُد النوايا لكن الله يقذف فى قلبه نوايا من عنده تليق بمقامه وهذا هو أول فتح يفتح الله به على الصالحين أن يفتح الله له فى قلبه باباً يتلقى منه إلهام ربه وأول الإلهام الدليل على حب الله له أن يُلهمه الله النوايا التى بها يرفع الله قدره ويُعلى الله شأنه ويجعله على قدم حبيبه ومصطفاه صلوات ربى وتسليماته عليه عندما رجعَ رسولَ الله من غزوةِ تبوكَ ودَنا من المدينة قال[إنّ بالمدينةِ أقواماً ماسِرتم مَسِيراً ولاقَطعتُم وادياً إلاكانوا مَعَكم قالوا:يا رسولَ الله وهم بالمدينة قال:وهم بالمدينة حَبَسَهمُ العُذر}[1]
ولذلك أعطاهم الله بالنية ربما ما لم يأخذه نفر ممن مشى مع سيد البرية فى هذه السفرة لأنه ربما خرج مسافراً ويُسر فى قلبه النفاق والمنافقون كانوا يسافرون معه ويحضرون معه بل ويحاربون معه لكن ليس لهم عند الله أجروالمُخلصين الصادقين الذين بقوا فى المدينة نالوا الأجر بالنية فأعلمنا أن النيَّةهى التى عليها المُعوَّل ولذلك يقول الإمام الشافعى( إن حديث{إِنَّما الأعْمَالُ بالنِّيات، وإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِىءٍ مانَوَى}ربع الدين ) لأنه عليه الأساس من كل عمل:{ رُبَّ قَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ قِيَامِهِ إلا السَّهَرُ وَرُبَّ صَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ صِيَامِهِ إلا الْجُوعُ وَالْعَطَشُ }[2]
وقالوا له: يا رسول الله الرجل يجاهد للذكر والرجل يجاهد للغنيمة والرجل يجاهد حمية لقومه فمن فى سبيل الله؟ فقال{مَنْ قَاتَلَ لِتكُونَ كَلِمَةُ الله هِيَ العُلْيَا فَهُوَ في سَبِيلِ الله }[3]لذلك من قاتل للذكر أو للغنيمة أو حمية لقومه فليس له أجر فالأجر على قدرالنية مع أنه قاتل وحارب لكن الإمام الشافعى جعل ربع الدين على هذا الحديث الطيب{إِنَّما الأعْمَالُ بالنِّيات}لأن النبى استخدم له أداة الحصر (إنما) ويقول فى حديث آخر{نيَّةُ المؤمنِ خَيْرٌ مِنْ عَمَلِهِ}[4]ويروى أن الله يوم القيامة يُظهر فضل النوايا فيأمرالملائكة بإحضار رجل معه أمثال الجبال من الأعمال الصالحة فيقول الله تعالى{أَنْتُمُ الْحَفَظَةُ عَلَى عَمَلِ عَبْدِي وَأَنَا الرَّقِيبُ عَلَى نَفْسِهِ إنَّهُ لَمْ يُرِدْنِي بِهذَا الْعَمَلِ وَأَرَادَ بِهِ غَيْرِي فَعَلَيْهِ لَعْنَتِي}[5]هو لا يعُطى الأجر إلا إذا كان العمل خالصاً لذاته ولذلك تجد الصالحين أول تدريب عملى يقومون به للسالكين والمحبين هو أن يتمرن السالك على إخلاص القصد والنية فى كل حركة أو سكنة لله ومن لم يستطع ذلك فقولوا له: ليس لك فى هذا الطريق لا من قريب ولا من بعيد لأن الله قال فى قرآنه{أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ}{فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}لابد من تحرى الإخلاص فى كل عمل والإخلاص أن تقصد وجه الله فى كل عمل حتى كان أحد الصالحين عندماكان يمرن تلاميذه على ذلك كان يدربهم إذا نزل أحدهم بلد للدعوة إلى الله يقول له : يا بنى كل ما اشتهيت قبل أن تذهب إلى القوم الذين تدعوهم إلى الله حتى لا تميل نفسك إلى شئ مما عندهم وتكون الدعوة خالصة لوجه الله ويقول: لو ذهب داعياً إلى الله إلى بلد وأفاض الله عليه من العلوم ومن الإلهامات ما لا حد له وبعد أن انتهى لم يدعُه أحد من أهل هذا البلدة إلى حتى تناول قدح شاى إذا تغير قلبه على أهل هذه البلد بسبب ذلك فإنه يحتاج إلى أن يُرد إلى دائرة الآداب ليتأدب فى رياض الصالحين وحتى حديث الناس فإن النفس تحب أن تُحَدِّث أو تُحَدَّث بما فعلت وما سمعت وما صنعت فكان يقول{يا بنى اعمل ولا يهمك معرفة الناس أو شيخك أنك تعمل لأنك تعمل لله لا للناس أولشيخك}هذا الإخلاص كان أصحاب حضرة النبى يلاحظونه فى أدق المواطن فقد ورد أن الإمام علىّ طلب أحد الفرسان من الكافرين رجلاً للمبارزة فخرج له فأخذا يضربان حتى سقط فرسيهما تحتهما موتاً من شدة الضرب والكر والفر فترجلا وأخذا يضربان بعضاً بالسيوف حتى تكسرت سيوفهما فاشتبكا مع المصارعة فحمله الإمام علىّ وجلد به الأرض وركع فوقه وأخرج خنجره ليذبحه فتفل الرجل فى وجهه فقام الإمام علىّ وتركه فتعجب الرجل وقال : لِمَ تركتنى بعد أن تمكنت منى؟ قال كنت أقاتلك لله فلما تفلت فى وجهى خفت أن أقتلك انتقاماً لنفسى فيكون العمل غير خالص لربى قال: وهل تراقبون الله فى هذه المواطن؟قال: وفى أدق منها كانوا يراقبون الله فى هذه المواطن يراقبون أن تكون الحركات والسكنات فى كل زمان ومكان لا يرجون بها إلا رضاء الله وإلا وجه الله ثم بعد ذلك يقومون بها على هيئة حبيب الله ومصطفاه أى يتابعون الحبيب صلوات ربى وتسليماته عليه فى هذا الحال لكن لابد أن تكون النيَّة أولاً لله ولذلك كانت كل أحوالهم طاعات نومهم ذكر وجلوسهم ذكر وقيامهم ذكر وحديثهم ذكر ونظراتهم ذكر وإمداد أيمانهم إلى غيرهم ذكر ومشيهم بأقدامهم وسعيهم بأقدامهم إلى أى مكان ذكر وأى حركة بالجوارح الظاهرة معها نية باطنة ولذلك أعمالهم كلها ذكر لله لأنهم استحضروا النواياوالطوايا بعد أن طهروا القلب لله وجعلوا الأعمال خالصة لله وفيهم يقول الله لحبيبهومصطفاه{وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَاقَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً }

[1] صحيح البخارى عن أبى هريرة رضى الله عنهما

[2] مسند الشهاب عن ابن عمر.

[3] مسند الإمام أحمد عن أبى موسى الأشعرى.

[4] فتح البارى وشرح الزرقانى

[5] رواه ابن حبان والحاكم وغيرهما عن معاذ رضى الله عنه (الترغيب والترهيب)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى