تأملات نقدية في مفاهيم السرد والقص والحكي .. بقلم: عبد المنعم عجب الفَيا

السودان اليوم

كان يقال في النقد الأدبي: فن القص والقصص. ويشار إلى نوع النص القصصي بوصفه: إما قصة قصيرة أو رواية. وبدءً من تسعينيات القرن العشرين تقريبا طغى استخدام كلمة “سرد” في الخطاب النقدي العربي الحداثي ولم تعد تدل فقط على سرد وقائع وأحداث الحبكة القصصية، بل صارت تستخدم اسما لهذا الفن أو للنص نفسه. فيقال مثلا: الخطاب السردي، أي الخطاب القصصي، أو منتدى السرد، أي منتدى فن القص، أو مؤتمر السرد العربي إلخ.

والسرد بهذا المعنى نقل للمصطلح الأجنبي narrative (اسما ومصدرا وليس صفة). ولكن حتى المصطلح الأجنبي يدل على معنيين: الأول سرد الوقائع وتتابعها بطريقة تقريرية بغير حوار، والمعنى الثاني فن القص.

أما المصطلح الأجنبي للدلالة على القصة والرواية كجنس أدبي فهو fiction والمقابل العربي لاسم الجنس ينبغي ان يكون القَصص (بفتح القاف) أو القصة والرواية، وليس السرد لأن السرد في العربية، مفهوم عام ولا يقتصر على القصة والرواية. فبجانب السرد القصصي، هنالك السرد التاريخي وسرد الكلام والخبر والحكاية وغيره.

وأصل السرد في اللغة العربية التتابع وتعلق الشيء بالشيء. جاء بمعجم لسان العرب: “السرد في اللغة: تقدمة شيء إلى شيء تأتي به متسقا بعضه في أثر بعض متتابعا. سرد الحديث ونحوه يسرده سردا إذا تابعه. وفلان يسرد الحديث سردا إذا كان جيد السياق له”. انتهى.

إذاً السرد في العربية هو وصف لفعل القص وسياقه وحبكته وليس القصة ذاتها. إنه وصف لإسلوب القص وللتكنيك الداخلي لصياغة النص. وهذا هو المعنى ذاته الذي يعطيه المصطلح الأجنبي narrative. وبهذا المعنى، السرد في القَصص، بمثابة النظم بالنسبة للشعر.

لما كان ذلك، وكانت كلمات: القص والقَصص والقصة والقاص، كلمات راسخة الجذور في التراث والذاكرة الجمالية العربية، فإن الاستغناء عن هذه الكلمات والاكتفاء بكلمة سرد للدلالة عليها جميعا، عملٌ فيه تضييق بعد سِعة.

جاء في لسان العرب: “القَصُّ فِعل القاصّ إِذا قَصَّ القِصَصَ، والقصّة معروفة. والقِصّة: الخبر وهو القَصَصُ. وقصّ عليّ خبَره يقُصُّه قَصّاً وقَصَصاً: أَوْرَدَه. والقَصَصُ الخبرُ المَقْصوص، بالفتح، وضع موضع المصدر حتى صار أَغْلَبَ عليه. والقِصَص، بكسر القاف: جمع القِصّة التي تكتب. والقَصَصُ، بالفتح: الاسم. والقاصّ: الذي يأْتي بالقِصّة من فَصِّها”. انتهى.

وقد وردت مفردة القص ومشتقاتها في القرآن الكريم نحو سبع وعشرين مرة. ومن ذلك مثلا قوله تعالى:”نحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَٰذَا الْقُرْآنَ”. – يوسف(3).

وقوله:” قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَىٰ إِخْوَتِكَ”. – يوسف(5). وقوله:” فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ”. – القصص(25).

وقوله:” تِلْكَ الْقُرَىٰ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَائِهَا”. – الإعراف (101). وقوله:” فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّٰلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ” – الأعراف (176).

وأما كلمة رواية novel كمصطلح على القصة الطويلة فتعد بهذا المعنى مدلولا جديدا للفظ عربي قديم إذ لم يكن لفظ رواية يدل على معنى القصة وإنما له دلالات أخرى. تقول روى الخبر يرويه رواية إذا أورده وسرده وقصه. ورواية النص هي الصيغة التي يرد بها النص. تقول هذا الخبر له رواية أخرى أي نص آخر. ورواية الشعر والحديث وروايات قراءة القرآن معروفة يقولون مثلا: رواية حفص عن عاصم. والراوي الذي يروي، والراوية صيغة مبالغة من راوٍ. ولا غبار من ناحية لغوية ومفهومية، على تسمية القصة الطويلة رواية. ويضاف هذا المعنى الى المعاني الأخرى للفظ، ويبقى سياق الكلام هو الذي يحدد المعنى المراد.

هذا، ويميز النقد الأدبي الحديث بين مؤلف النص قاصا كان أم روائيا وبين الصوت الذي يستخدمه المؤلف في سرد ورواية أحداث النص. ويسمى هذا الصوت السارد أو الراويnarrator أي الذي يسرد ويروي ويقص وقائع القصة. والنمط الطاغي وبخاصة في القصص التقليدي هو السارد الذي يصف عالم النص من الخارج مستخدما صيغة ضمير الغائب وهو بذلك ليس جزءً من عالم النص لكنه عليم بكل شيء حتى بما يدور في خلد الشخصيات وبما تحدثهم به نفوسهم.

يستهل غابرييل قارسيا ماركيز رواية (مائة عام من العزلة) بالقول: “عندما كان يقف أمام كتيبة تنفيذ الإعدام، تذكر الكولونيل أورليانو بوينديا، بعد سنين طويلة، عصر ذلك اليوم الذي اصطحبه فيه جده لمشاهدة الثلج لأول مرة في حياته”.

الراوي أو السارد هنا في هذه الرواية يسرد وقائع القصة من خلال الإخبار عنها بصيغة ضمير الغائب من غير أن يكون هو نفسه جزءً منها. وأكثر القصص والروايات من هذا النمط.

أما الصيغة الأحدث في السرد فهي صيغة الراوي الذي يستخدم ضمير المتكلم في رواية الأحداث مخاطبا القارىء مباشرة وهو بذلك يعد أحد الشخوص وجزء لا يتجزأ من عالم النص. ومن أشهر النماذج على ذلك رواية (موسم الهجرة إلى الشمال) للطيب صالح التي يفتتحها بالقول: “عدت إلى أهلي، يا سادتي، بعد غيبة طويلة، سبعة أعوام على وجه التحديد، كنت خلالها أتعلم في أوربا. تعلمت الكثير وغاب عني الكثير، لكن تلك قصة أخرى. المهم انني عدت وبي شوق عظيم إلى أهلي في تلك القرية الصغيرة عند منحنى النيل.”.

الراوي هنا شخصية رئيسة بل يمثل نقطة ارتكاز النص وبؤرة اندياحه. وهذه الطريقة في القص أو السرد محببة لدى القارىء لما فيها من حميمية في البوح ولكن على القارىء ان يكون يقظا حتى لا يخلط بين الراوي أو السارد وذات المؤلف فيظن ان المؤلف انما يحكي عن نفسه.

هذا، ومن مترادفات السرد والقص في لغة النقد الحديث، الحكِي من حكي يحكي حكاية. ولا فرق لغةً بين القصة والحكاية فإي حدث يُروى هو حكاية. ولكن بمنطق الفن ومصطلحاته، هنالك فرق بين القصة والحكاية إذ لا بد أن تخضع القصة للمعايير النقدية لفن القص وإلا صارت مجرد حكاية.

أما الحكِي بمعنى الكلام والحديث فهو من لهجة بلاد الشام. ومع ذلك وجد هذا التعبير طريقه إلى لغة الكتابة فيقولون مثلا: اللغات المحكية. ويقصدون بها اللغات المنطوق بها أو لهجات الكلام. غير أن اللهجات dialects هو المصطلح المستخدم في علم وفقه اللغة في الدلالة على لغات الكلام.

abusara21@gmail.com

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى