الصياغة الإسلامية لعلم الاجتماع الدواعي والإمكان

يتفق علماء الاجتماع المعاصرون، على أن علم الاجتماع في العالم الإسلامي، يسير على خطى علم الاجتماع في الغرب، حذو القذة بالقذة. فالنظريات والمناهج الغربية، بل في أحيان كثيرة اللغة الغربية، هي ما يجيده علماء الاجتماع في العالم الإسلامي، ويعتبر هذا الوضع أمراً طبيعياً في مناخ تسوده التبعية المطلقة للغرب، التي انتظمت كافة المجالات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية.

وفي جو معتم، بلغت فيه التبعية مبلغاً، جعلت الدول الإسلامية تستورد كل شيء ضروري لوجودها – بما في ذلك أفكارها عن نفسها – في جو كهذا لا غرابة أن ينشأ المفكر- أياً كان تخصصه – تابعاً، لا تتجاوز قدرته النقل والترجمة والشرح على النص(113).

وقد بدأت خيوط هذه التبعية تتشابك في القرنين الأخيرين، حيث يمكن تحديد فترة الالتقاء بين الثقافة الإسلامية والثقافة الغربية في العصر الحديث، بحوادث احتلال الإنجليز للهند، وفرنسا لمصر، ثم لشمالي أفريقيا، ولأوائل اتصال الدولة العثمانية بالغرب عن طريق التمثيل السياسي، والصلات التجارية، والبعثات العلمية(114).

وقد تسربت الثقافة الغربية عن طريق عدة قنوات إلى الثقافة الإسلامية، واستطاعت بعد ذلك أن تسيطر على أذهان كثير من أبنائها.

فعلى ضوء العوامل السابقة، أثيرت في العالم الإسلامي كثير من المشكلات، دار حولها نقاش حاد، تعتبر في صميمها من مواضيع علم الاجتماع، على الرغم من أنها لم تستخدم المفاهيم والمصطلحات الخاصة بعلم الاجتماع. فالكتابات التي كتبها قاسم أمين (115) وأحمد فتحي زغلول (116) وبطرس البستاني (117) وأمين الريحاني (118)، في مصر والشام، وأمثال الطاهر الحداد في تونس، كانت تتناول مواضيع اجتماعية، وتعتبر في مجملها مقارنة بين الأوضاع الأوربية والأوضاع في العالم ا لإسلامي. كما أنها تحمل دعوة لتبني الأوضاع الأوربية. وتدور الكتابات في هذه الفترة حول قضايا ثلاث رئيسة يمكن تلخيصها فيما يلي:

1- الدعوة إلى الحرية الشخصية، والحياة النيابية، كما عرفتها الدول الأوربية. وكان القصد منها المطالبة بحرية الفرد في أن يفعل ما يشاء، وفي أن يعبر عن رأيه، وينشره كيفما أراد، وكان دعاة هذه الحرية متأثرين بالثورة الفرنسية على وجه الخصوص، حيث نادت هذه الثورة بالحرية والإخاء والمساواة.

2- الدعوة إلى فصل السلطة الدينية عن السلطة المدنية، وبمعنى آخر فصل الدين عن الحياة وشؤونها، على غرار ما حدث في أوربا، عندما تخلص المفكرون من سلطة الكنيسة.

3- الدعوة إلى تحرير المرأة من العادات والتقاليد، التي تحد من حريتها، وعلى رأسها الحجاب، وكذلك تعدد الزوجات، إضافة إلى مسألة الطلاق، واشتغال المرأة بالشؤون العامة(119).

ويلاحظ في هذه الفترة أن الدراسات تسير بخطى حثيثة لتبني وجهة الغرب الليبرالي في المسائل الاجتماعية السابقة.

وقد اعتبرت الكتابات في تلك الفترة، بمثابة إشارات وعلامات سبقت ظهور علم الاجتماع، كعلم مستقل في العالم الإسلامي(120). وقد أظهرت – كما سبق – قدراً كبيراً من التبعية للغرب الليبرالي بالذات.

ظهور علم الاجتماع

وأما إذا جئنا إلى الكتابات في علم الاجتماع، بعد رسوخه والاعتراف به، نجدها قد أوغلت في التبعية للغرب الليبرالي، إلى درجة بعيدة، وسنحاول استعراض بعض الدراسات في هذه الفترة التي تمثل بداية مشوار على الاجتماع.

وتعتبر رسالة المصري منصور فهمي (122)، المبتعث من قلب الجامعة المصرية إلى جامعة باريس سنة 1913م، أول رسالة في علم الاجتماع، وكان عنوان الرسالة “حالة المرأة في التقاليد الإسلامية والتطور الإسلامي “، وكان المشرف عليها عالم الاجتماع والأنثربولوجيا اليهودي “لوسيان ليفي بريل “. يذكر المؤلف في مقدمة رسالته: “أنه سيُغْضب كثيراً من مواطنيه، ولكنه أراد تحري الحقيقة، مع أن قلبه يتمزق أسىً على من سيجرح شعورهم بلا قصد، وهم في الوقت نفسه أعزاء عليه، غير أن الحقيقة من شيمة الأقوياء، بينما إغفالها من شيمة الضعفاء ” (121).

وقد كان يبرر بذلك وقوعه تحت تأثير المستشرقين المتعصبين، فقد أتت رسالته مجافية لقواعد الدين، فضلاً عما يجب أن يتصف به المسلم إذا تناول مبادئ الإسلام، من توقير واحترام وموضوعية.

وعندما نذكر عناوين الفصل الأول، تنكشف مدى مبالغة المؤلف في البعد عن روح البحث العلمي الواجب التحلي به، فهو يتحوي العناوين التالية:

“محمد يشرع للجميع، ويستثني من ذلك نفسه “، ثم: “زيجات محمد “، “حياته المنزلية “، “آراؤه المعادية للمرأة “، ثم: “آراؤه المناصرة للمرأة “، وفي هذا الفصل يتحدث عن القواعد الخاصة بالزواج، وكيف استثني النبي صلى الله عليه وسلم منها. وكما يقول د. سعفان “فلا يستطيع قارئ أن يتصور فصلاً يحتوي على نقد لاذع للنبي صلى الله عليه وسلم ، ولحياته الزوجية والاجتماعية أكثر من هذا الفصل “(123).

وقد سار الباحث على خطو أستاذه اليهودي، ووقع تحت تأثيراته، فكانت نظرياته بعيدة عن الصواب، ولا يليق صدورها عن مسلم. وقد تراجع عنها المؤلف فيما بعد.

وعلى الرغم من أن طه حسين (124) يعد في عداد الأدباء، إلا أن رسالته عن “فلسفة ابن خلدون الاجتماعية “، 1918م، التي أشرف عليها المسيو كازانوفا (125) أستاذ الأدب العربي في باريس، لها علاقة كبيرة بعلم الاجتماع، حيث تناول البحث أراء ابن خلدون الاجتماعية.

واللافت للانتباه في هذه الرسالة، أمران: يتعلق الأول: بإنكار المؤلف أن يكون ابن خلدون مؤسساً لعلم الاجتماع أو مبشراً به، وذلك على خلاف الغالبية من علماء الاجتماع المسلمين. وكذلك بعض الأوروبين. وقال عن رأي هؤلاء: “إنني أعتقد أن تلك مبالغة جسيمة “. ويتعلق الأمر الثاني، برأيه في الإبداع الذي قدمه ابن خلدون، فهو يعتبر أن عبقرية ابن خلدون تجلت في أنه فصل السياسة عن الأخلاق، واللاهوت، والقانون، فقد خلّص ابن خلدون السياسة من الاعتبارات الدينية، وعرضها في صورة علمية صرفة (126).

وكما نرى: فقد صور طه حسين ابن خلدون في صورة العلماني الذي يفصل أمور الدنيا عن الدين، وذلك نتيجة حتمية لتشبعه بالثقافة الغربية، ويغفل عن أن ابن خلدون فقيه من فقهاء الشريعة، وعلم من أعلام المذهب الملكي، قبل أن يكون سياسياً أو مؤرخاً، كما أنه ابن البيئة والثقافة الإسلامية، وكان يصدر في نظرياته جميعاً عن منطلق إسلامي مخض، كيف لا وهو الذي يقرر في هذا الموضوع ما يأتي: “والخلافة هي حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليها. وإذ أحوال الدنيا ترجع كلها عند الشارع ال اعتبارها بمصالح الأخرة، فهي في الحقيقة خلافة عن صاحب الشرع في حراسة الدين وسياسة الدنيا “(127).

فقد اعتبر أن الشرع إنما جاء لسياسة الدنيا، والتوجيه إلى مصالح الآخرة أيضاً.

وأما عن أول مؤلف بالعربية، يحمل اسم علم الاجتماع، فقد صدر في مصر سنة 1925م، وهو بعنوان “علم الاجتماع – حياة الهيئة الاجتماعية وتطورها “، ألفه نقولا الحداد(128)، وهو عبارة عن جزأين.

ولقد لقي الكتاب ترحيباً حاراً عند صدوره، فمثلاً كتب أسعد داغر(129) في مجلة المقتطف، 1925م: “وجملة القول: إن كتاب علم الاجتماع وحيد في بابه، فريد في نوعه، لم يُنسج بعد على منواله، ولا سمحت قريحة كاتب بمثله “.

وكتبت مجلة “الشورى ” عنه قائلة: “كتاب لم الاجتماع، هو الأول من نوعه على ما نعلم، وقد اشتغل الأستاذ في الاستعداد لتأليفه خمسة عشر عاماً”.

وكتبت “السياسة ” قائلة: “نحن بإزاء مجهود عالج فيه المؤلف علماً جديداً في العربية، وجاهد ليضع اصطلاحات جديدة، ولكل جديد حقه في الحياة “(130).

ويدور الكاتب في كتابه هذا، في فلك الدراوينية والتطورية، فقد تأثر تأثراً كبيراً بمؤلفات أصحاب النظريات العضوية والتطورية، التي سادة أوربا في ذلك الوقت. فقد قرأ أعمال “هربرت سبنسر “، وترجم منها نصوصاً كاملة.

وللتمثيل على آرائه، نورد ما يلي:

يقول الباحث عند حديثه عن منشأ الإنسان الأول، وتحت العنوان الفرعي: ابتدأت الإنسانية بتفوق جماعة واحدة: “أغضينا النظر فيما تقدم عن عقيدة خلق الإنسان الخالص، لأنا نعتنق في بحثنا لاجتماعي عقيدة تسلسل النوع الإنساني من نوع أحط منه، استناداً على تقرير العلم الطبيعي البيولوجي والجيولوجي لعقيدة التسلسل، العلم الطبيعي يؤيدها بيولوجياً، علم الاجتماع يؤيدها اجتماعياً أيضاً، لما علمته فيما تقدم من استمرار الاجتماعية من المملكة الحيوانية إلى المملكة الإنسانية “(131).

ويقول في موضوع آخر – عند كلامه عن الدين-: “يظهر لمن درس عقائد الجماعات المنحطة المختلفة، أن الدين جاء بعد السحر والعرافة، وما يشبهها من العقائد، ولعله تولد منها. . والسحر والعرافة وما إليهما، جاءت بعد خرافات التشاؤم والتفاؤل، لأن بعض القبائل الهمجية الباقية إلى الآن ليس عندها عقيدة دينية بتاتاً، وإنما عندها خرافات وأوهام من قبيل التفاؤل “(132).

ولم يكن المؤلف سباقاً لنقل الداروينية بكتابه هذا، بل إنه كان يساير الوضع السائد، حيث ازدهرت التطورية في تلك الفترة في العالم الغربي، وازدهر نقلها إلى العالم العربي.

ومن ناحية أخرى، يقول أحد مؤرخي علم الاجتماع في مصر: “لم تتح الفرصة، لتدريس هذا العلم في مصر، كعلم أساس إلا في سنة 1925م، التي تحولت فيها الجامعة المصرية من جامعة أهلية إلى جامعة حكومية، وقد أنشئ في كلية الآداب قسم مستقل، لتدريس علم الاجتماع،سار على نهج المدرسة الاجتماعية الفرنسية التي بدأها: “أوجست كونت”.. وأرسى قواعدها “اميل دوركايم”.. ولقد أثرت هذه المدرسة، ولا تزال تؤثر، قسم الدراسات الاجتماعية في كلية الآداب بجامعة القاهرة، الجامعة الأم، وحتى يومنا هذا “(133).

ومن أوائل الكتب التي صدرت بعنوان علم الاجتماع، كتاب د. عبد العزيز عزت الذي صدر عام 1949م بعنوان: “علم الاجتماع والعلوم الاجتماعية “، تكلم فيه عن أهمية علم الاجتماع في فهم الظواهر الاجتماعية.

وفي عام 1953م، كتب د. حسن سعفان كتابه: “أسس علم الاجتماع ” تناول فيه أغلب موضوعات علم الاجتماع، وقد طبع طبعات كثيرة درست لمعظم طلاب علم الاجتماع في مصر، والكويت، ولبنان، وليبيا، وقد رجع المؤلف إلى عدد كبير من المراجع الفرنسية، والإنجليزية، والأمريكية(134).

ولسعفان مؤلفات أخرى متقدمة النشر، منها: مشكلات المجتمع المصري “1951م “، تاريخ الفكر الاجتماعي “1957م “، الدين والمجتمع “1957 – 1958م “، إلا أن هذه المؤلفات “لا تنم عن موقف خاص للمؤلف، أو اتجاه نظري معين ينتمي إليه، فهي عبارة عن جهد تجميعي نشط، ولا تنطوي على أي إنجاز علمي حقيقي ” (135). وقد انحصر نشاطه في الغالب في نقل مفهومات وتصورات المدرسة الفرنسية في علم الاجتماع من خلال أعمال “دوركايم ” وتلاميذه.

وكتب د. عبد الكريم اليافي من سوريا كتاب: تمهيد في علم الاجتماع “سنة 1952م “، وهو لا يختلف عن الكتاب السابق من حيث الاتجاه، حيث يدور حول النظرية في علم لاجتماع الأوروبي الكلاسيكي.

وهناك نوع آخر من الكتابة في علم الاجتماع ظهر مبكراً، وهو البحوث الأمبريقية الميدانية، وتمثل دراسة حسن الساعاتي “1951م “: علم الاجتماع الجنائي، واحدة من أقدم الدراسات من هذا النوع. وكذلك دراسته: التصنيع والعمران “1962م “، وقد استخدم في دراساته أساليب البحث الأمبيريقي.

ويعد المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية في القاهرة – والذي أنشئ في منتصف الخمسينيات- رائداً في البحوث الأمبيريقية التي شملت مختلف الجوانب، كالتصنيع، والريف، والأسرة، والرأي العام، إضافة إلى الجريمة وانحراف الأحداث، وغيرها.

وبالنسبة لعلم الاجتماع في المغرب العربي، فإن نشأته جاءت مرتبطة بالسلطة الاستعمارية الفرنسية، وقد هدف الاستعمار إلى إذابة الهوية الإسلامية، فكانت الدراسات الميدانية، تتجاهل دور الإسلام، لتعود إلى تاريخ البربر القديم وتحاول التركيز على الفروق بين العرب والبربر، فالمدرسة الاستعمارية في الاجتماع المغربي، كانت مشغولة بهدف أيديولوجي أساس صبغ كل أعمالها هو:

العمل على تمثل السكان الريفيين – وخاصة البربر- سياسياً وفكرياً ولا شك أن علم الاجتماع في تلك الفترة، لكان أداة للقهر، وتأكيد السيادة الفرنسية(136).

وملامح علم الاجتماع في المغرب في هذه الفترة، يمكن تحديدها كما يلي:

1- إن علم الاجتماع كان ذا طبيعة عملية، هدفها توفير المعلومات المطلوبة إلى رجال الإدارة الفرنسيين.

2- إن جميع الدراسات التي تمت، أجريت بواسطة فرنسيين.

3- إن الإطار النظري لتلك الدراسات، كان ذا مضامين سياسية واضحة تماماً(137).

ملاحظات حول مسيرة علم الاجتماع

بالجهود السابقة وغيرها، رسخ علم الاجتماع أقدامه في العالم الإسلامي. وأصبح علماً معترفاً به. فمنذ إنشاء قسم الاجتماع في الجامعة المصرية سنة 1925م، والجامعة الأمريكية ببيروت في أوائل الثلاثينيات، وعلم الاجتماع ينمو ويكبر حتى تحول إلى عملاق ضخم، أفردت له الأقسام في الجامعات والمعاهد.

ويمكننا هنا أن نسجل بعض الملاحظات على مسيرة علم الاجتماع بعد أن ثبتت أركان كعلم معترف به:

1- كان غالبية رواد علم الاجتماع، الذين ثبتوا دعائمه، تخرجوا في جامعات بريطانية أو فرنسية – كما حدث في مصر والمغرب – أو أمريكية كما حدث في العراق. يقول أحد مؤرخي علم الاجتماع في العراق: “إن تطور علم الاجتماع في العراق، لم يختلف كثيراً عنه في الدول النامية: الأخرى، وموضوعه حديث بالنسبة لجميع هذه الدول، وليس له جذور قومية عميقة، ويجدر بالذكر هنا أن علم الاجتماع في كثير من الدول النامية ومن ضمنها العراق، كان قد تأثر كثيراً بعلم الاجتماع الأمريكي في النظرية والمنهجية “(138).

وقد ترك التعليم الغربي لهؤلاء الرواد، آثاره الواضحة على تصوراتهم وأفكارهم، وكانت جهودهم منصبة على الترجمة أو التأليف المعتمد على المراجع والمصادر الأوربية، وقد ساهموا بنقل المدرسة الليبرالية في علم الاجتماع كما هي، دون إخضاعها لأية عملية نقدية في المنهج أو في النظرية(139).

2- لقد كان هناك أساتذة أجانب كثيرون يدرّسون علم الاجتماع في الجامعات الإسلامية، فمثلاً في الجامعات المصرية كان أول أستاذ لعلم الاجتماع فيها هو المسيو “جورج هوستاليه ” البلجيكي، والذي كان رئيساً لمعهد سولفي الاجتماعي، والفرنسيان المشهوران إميل برييه الذي درّس في الجامعة ست سنوات متقطعة. وكذلك الإنجليزي الشهير إيغانز بريتشارد، والإنجليزي هوكارت.. ولأن الأساتذة أجانب، فقد كانت لغة التعليم أجنبية أيضاً، ففي البداية دُرُست أغلب المواد بالفرنسية، لوجود الأساتذة الفرنسيين، ثم تحولت إلى الإنجليزية لوجود الأساتذة الإنجليز(140).

3- شكلت الجهود السابقة الخطوط العريضة لمسيرة علم الاجتماع فيما بعد، فقد واصل علم الاجتماع مسيرته في هذا الطريق، فالطلبة تلقوا علمهم من الرواد السابقين، من ثم تحولوا إلى أساتذة في الجامعات التي درسوا فيها. وكانت مادة العلم هي تلك المادة الفرنسية، أو الإنجليزية، أو الأمريكية، التي ترجمت ثم حفظت. ومن ثم كان الطالب على علم تام بكونت، ودوركايم، وفيبر، وسمنر، وكيلر، وبارسونز. وبذلك تكون المدرسة الليبرالية الغربية على وجه العموم، هي الاتجاه الأول، الذي سيطر على الباحثين في علم الاجتماع في العالم الإسلامي. ولا يزال الغالبية من علماء الاجتماع يدورون في فلك هذه المدرسة، دون محاولة الانعتاق منها، أو الابتكار.

4- ازدادت التبعية لعلم الاجتماع الغربي، مع ازدياد توسع علم الاجتماع، حيث نقلت نظريات غربية كاملة في علم الاجتماع. وذلك بطريقتين:

(أ) نقل مؤلف بذاته نقلاً كاملاً، من خلال ترجمته إلى اللغة العربية.

(ب) النقل من عدة مصادر غربية، قصد التعريف بهذه النظريات من خلال أهم أعمال روادها، وأهم مفهومات وقضايا هذه النظريات(141). وهذا هو الطابع الغالب على التأليف في علم الاجتماع، وهو طابع شائع في العالم العربي، يتميز بالغزارة من حيث الكم، ولكنه من حيث النوع ليست له أي قيمة حقيقية، ولا يلعب أي دور في تحليل المجتمع العربي، أو الإسلامي. فهو عبارة عن “تجميعات لنظريات مختلفة، دون أي ربط بينها وبين المشكلات الملحة القائمة في المجتمع “(142).

ولعل من الأمثلة على ذلك، سلسلة علم الاجتماع المعاصر التي صدر منها ما يزيد على 64 كتاباً تمثل في غالبيتها ترجمات للنظريات الغربية الليبرالية.

5- لم تكن ولادة علم الاجتماع الحديث في العالم الإسلامي تلبية لحاجات معينة، ولكنه كان تقليداً للنظام الأكاديمي الغربي، لذلك لم يكن مستغرباً منه ا لمحاكاة، والتقليد التام للدراسات الغربية، وقد ساعد الاستعمار على السير في هذا الطريق، حيث إنه هو الذي صمم خلال سيطرته على العالم الإسلامي، أُطر التعليم والثقافة، بل إنه هو الذي أوجد المؤسسات التعليمية والثقافية في شكلها الحديث. ومما لا شك فيه، أن علم الاجتماع، والبحث الاجتماعي، والأنثربولوجيا، علوم استعمارية. ويدل على ذلك ارتباطها في كثير من الأقطار، بالإدارة الاستعمارية الإنجليزية، والفرنسية، وفيما بعد الأمريكية. وعندما رحل الاستعمار السياسي بقي الاستعمار الفكري، حيث بقيت المؤسسات التعليمية مرتبطة بالمستعمر من خلال اللغة السائدة، والبعثات الدراسية، وتمويل البحوث، والدراسات العليا، والجامعات. وحتى البلدان التي قللت من البعثات للخارج، وصارت تمنح درجات عليا من جامعاتها المحلية، لا تزال مرتبطة بالغرب، حيث أن النظريات والمناهج هي نسخ سيئ لإنتاج الغرب(143).

6- لم تكن التبعية لعلم الاجتماع الغربي، مرد نقل نظريات ومناهج غربية، ولكنه نقل لقيم الغرب ومبادئه. فالنظريات والمناهج الغربية أوجدتها قيمه، وحاجاته، وظروفه. فهي تحمل العلمانية، والعقلانية، والليبرالية التحررية، وتحمل أيضاً المادية. فعلم الاجتماع ليس المادة الإحصائية أو الواقعية، ولا تصبح هذه علم اجتماع ليس المادة الإحصائية أو الواقعية، ولا تصبح هذه علم اجتماع إلاّ عندما تفسر، أو تؤول بناء على رؤية أو نظرية معينة(144).

الاتجاه الماركسي

يمثل الاتجاه الماركسي القطب الآخر، الذي يشد علماء الاجتماع في العالم الإسلامي إليه. وقد مارس سيطرته على أتباعه، وكانوا أوفياء له لدرجة أنه يوجد فيهم من هو ماركسي أكثر من ماركس نفسه. ومع أن هذا الاتجاه أحدث ظهوراً، وأقل انتشاراً، من الاتجاه الليبرالي، إلا أنه أشد نشوزاً، وأكثر تنافراً مع مبادئ المسلمين، وواقعهم أيضاً. ويتحتم علينا هنا أن نعرض لبدايات ظهور هذا الاتجاه عند علماء الاجتماع العرب خاصة، كما عرضنا لبدايات ظهور نظيره الليبرالي:

* يعد كتاب أوسيبوف: “قضايا علم الاجتماع – دراسة سوفيتية نقدية لعم الاجتماع الرأسمالي “، أول عمل ماركسي في علم الاجتماع يترجم إلى العربية، وقد قام بترجمته د. سمير نعيم أحمد، ود. فرج أحمد فرج، وقدم له د. عاطف غيث سنة 1970م.

وكان الهدف من ترجمته: البحث عن اتجاه بديل للاتجاهات الغربية الفاشلة.

وقد علل المترجمان أيضاً اختيارهما لهذا الكتاب: أنه “انطلاقاً من حاجتنا إلى فكر مفتوح لكل التجارب… ولقد كان رائدنا في اختياره أن نقدم للقارئ وجهاً أخر لعلم الاجتماع، وجهاً مخالفاً لعلم الاجتماع الذي ألف أن يطالعه.. ونعني به الوجه “البرجوازي” لعلم الاجتماع.. والوجه الآخر الذي يعرضه هذا الكتاب، هو الوجه الماركسي لعلم الاجتماع “(145).

* وقبل هذا الكتاب، أفرد د. مصطفي الخشاب في كتابه: “المدارس الاجتماعية المعاصرة “، فصلاً عن الروسية في علم الاجتماع، عني فيه بالجهود السوفييتية الحديثة في هذا العلم.

* كذلك كتب السيد ياسين عدة مقالات في مجلات مختلفة، عن علم الاجتماع الماركسي، منها مقال بعنوان “الاتجاهات الحديثة في علم الاجتماع الماركسي “(146)، عني فيه بظهور علم الاجتماع الماركسي الأمبريقي.

* كتب د. سيد عويس عام 1970م، مقالاً وسمه: “علم الاجتماع في بلد اشتراكي “(147)، وضح فيه الملامح الأساسية لبحوث علم الاجتماع في روسيا، من حيث النظرية، والموضوع، وأساليب البحث.

وفي سنة 1973م، تمت ترجمت كتاب س. بوبوف: “نقد علم الاجتماع البرجوازي المعاصر “، وهو من الكتب الرائدة في التعريف بالنظرية الماركسية.

كما كتب د. عبد الباسط عبد المعطي في وقت لاحق، كتابه: “الاتجاه السوفييتي في علم الاجتماع “، وفي هذا الكتاب عرض المؤلف بدراسة نقدية تقويمية، لبعض البحوث الشهيرة التي أجريت في الاتحاد السوفييتي.

هذه بعض الجهود التي فتحت الأنظار على علم الاجتماع الماركسي. ولقد انتشر علم الاجتماع الماركسي، في العالم الإسلامي حتى أصبح يشكل تياراً قوياً. وقد ساعد في انتشاره تبني كثير من أبناء العالم الإسلامي للمبدأ الماركسي، واعتناق بعض الحكومات للماركسية، إضافة إلى فشل علم الاجتماع الليبرالي في تحقيق طموحات علماء الاجتماع، كما أن الطبيعة الثورية والنقدية، عامل آخر يجذب إلى علم الاجتماع الماركسي.

وتشير إحدى الدراسات ، إلى أن الماركسية تشكل مصدراً هاماً من مصادر تكوين فكر علماء الاجتماع. فقد أشارت هذه الدراسة، إلى المصادر الفكرية العامة، التي تساهم في التكوين الفكري لعلماء الاجتماع التونسيين. وكان على رأس القائمة التي توصلت إليها الدراسة، “سمير أمين “(148)، ثم أتى في مرحلة تالية له ماركس – إنجلز(149) – ليفي ستراوس – ماكس فيبر – عبد الله العروي – رودنسون، وغيرهم. وفي القائمة الأخيرة أتى ابن خلدون(150).

ويوحى الترتيب السابق، بالمدارس المهيمنة على علم الاجتماع في تونس. فالماركسية تظهر من خلال ماركس، وإنجلز، ثم رودنسون، ومن خلال الماركسيين العرب: سمير أمين، وعبد الله العروي. والليبرالية تظهر من خلال فيبر. يقول الباحث خلال تحليله للنصوص التي دونها الطلبة، أما ماركس فأقرب إلى وضع “الإله الخفي ” الذي يتغير الموقف منه، دون أن يهمله أو ينفصل عنه. وليس هناك -عموماً – رجوع مباشر إليه، وإنما عبر “قراءات ماركسية ” من نوع قراءات ألتوسير وغرامشي، أو – من منظور فهم الواقع العربي عموماً والمغربي خصوصاً – من نوع قراءات سمير أمين، وعبد الله العروي(151).

وفي المغرب، تشكل المادية التاريخية واحدة من أهم النظريات في علم الاجتماع، إضافة إلى “الأمبيريقية، والتجزيئية، والجمالية “. وهي تعني عند المغاربة: تركيب بين معطيات الواقع، وبين مفهوم نظري قوى “نمط الإنتاج “.. إنها جمع بين الشمولي والخاص، من خلال منهج جدلي في تاريخ عالمي واحد، يحركه الصراع الطبقي.. وعلى هذا، فإن ولادة علم الاجتماع المغربي، مشروطة بإنتاج نظرية حول الأشكال المغربية “الخاصة ” للصراع الطبقي(152).

ولقد أيد هذه الحقيقة، ما توصلت إليه إحدى الدراسات، حول تصورات علماء الاجتماع العرب، الحالية والمستقبلية، لأهم موضوعات ونظريات ومناهج علماء الاجتماع في الوطن العربي. وقد توصلت الدراسة إلى أن علم الاجتماع في الوطنالعربي، تابع للاتجاهين الفكريين العالميين: “البنائية الوظيفية، والمادية التاريخية “، اللذين يمثلان نتاجاً لخبرات المجتمعات الغربية.

فقد عبر 48.8% من مجموع شرائح البحث، عن أن النظريات البنائية الوظيفية – بشكليها التقليدي والمعدل – تمثل النظرية الاجتماعية الشائعة في الوطن العربي.

كما دلت الدراسة على أن هناك اتجاهات غربية أخرى، لها شعبيتها عند بعض علماء الاجتماع، كالتفاعل الاجتماعي، والنظرية النفسية الاجتماعية.

وعبر 18.52% من شريحة البحث عن اعتقادهم بأن المادية التاريخية تمثل واحدة من أهم النظريات الاجتماعية الشائعة في الوطن العربي(153). وتشير نفس الدراسات إلى “أن هناك توازياً ملحوظاً بين طبيعة النظرية السائدة في الوطن العربي، وبين أنماط المناهج المستخدمة، فالذين اعتبروا أن البنائية الوظيفية هي النظرية الاجتماعية السائدة في الوطن العربي، هم الذين اعتبروا أن أكثر المناهج والأدوات شيوعاً هي المسح الاجتماعي، والمنهج التجريبي، والمنهج الوظيفي. أما الذين اعتقدوا أن المادية التاريخية تمثل نظرية شائعة في الوطن العربي، فكانوا هم الذين اعتقدوا أن المنهجين التاريخي والمقارن، هما الأكثر شيوعا ً”(154

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى