الاكتئاب قد يكون مرضا قاتلا 2019

ليس كل من قال أنا مكتئب هو حقاً كذلك، فالاكتئاب مرض نفسي لا يستهان به، وله صورة سريرية مميزة، ومعايير خاصة لتشخيصه (سيتم التطرق لها لاحقاً).

ويعرّف البعض الاكتئاب بأنه الشعور بالحزن والتعاسة، وقد يكون ذلك صحيحاً، غير أن الكثير منا يشعر، أو يعاني، من الحزن والتعاسة في فترة من فترات حياته، ولمدة قصيرة، غير أننا لا نستطيع اعتبار ذلك اكتئاباً. ومن هذا المنطلق يمكن تعريف الاكتئاب الحقيقي (المرضي) بأنه اضطراب مزاجي Mood Disorder يتجلى فيه الشعور بالحزن وعدم الاستمتاع بملذات الحياة، والتشاؤم والإحباط وتدني الطاقة الجسدية والعقلية. ويؤثر كل ذلك سلباً على الأداء الوظيفي والواجبات اليومية لعدة أسابيع أو عدة أشهر.

وبتعبير آخر، أستطيع القول إن الشعور بالحزن (أو ما نسميه “اكتئاب”) يحدث عند الجميع، غير أن هذا الشعور يتلاشى عادة ويزول تلقائياً بعد مرور فترة قصيرة من الزمن. في حين أن الاكتئاب المرضي هو عبارة عن اضطراب نفسي طويل الأمد يتمظهر في الحزن وعدم الاستمتاع بمباهج الحياة، يؤثر سلباً على حياة الإنسان المصاب به، وعلى نشاطه اليومي. إضافة إلى أنه يؤثر سلباً على حياة الأشخاص المقربين من المريض. ويحتاج المريض في هذه الحالة للتدخل الطبي للتخفيف من معاناته، من جهة، ولمنع تطور مضاعفات الاكتئاب، من جهة أخرى. علماً أن أغلب حالات الاكتئاب تستجيب جيداً للعلاج.

ويعتبر الاكتئاب واحداً من أكثر الأمراض (الجسدية والنفسية) التي تؤدي إلى إزعاج وإعاقة المصاب به. فالعذاب النفسي المستمر والتفكير بالانتحار تؤثر سلباً على نوعية حياته (علماً أن مرضى الاكتئاب معرضين لخطر الإقدام على الانتحار أكثر من غيرهم من المرضى الذين يعانون من اضطرابات نفسية أخرى).

وقد يكون الاكتئاب مرضاً قائماً بحد ذاته، وفي هذه الحالة يسمى “اكتئاب أولي”. أو قد يكون عرضاً من أعراض أمراض جسدية ونفسية أخرى. وفي هذه الحالة يسمى”اكتئاب ثانوي”. وفي هذا المقال سنركز جل اهتمامنا على الاكتئاب الأولي.

أسباب الاكتئاب

أكثر النظريات ترجح أن السبب الرئيسي الذي يقف وراء إصابة الإنسان بالاكتئاب هو انخفاض مستوى الناقلات العصبية Neurotransmitters في الدماغ وأهمها “السيروتونين” Serotonin و “النورأدرينالين ” Noradrenaline. والناقلات العصبية هي عبارة عن مواد كيميائية تستخدم لتحقيق الاتصال بين الخلايا العصبية. لذلك نلاحظ أن تناول المريض للأدوية المضادة للاكتئاب (والتي ترفع من مستوى الناقلات العصبية المذكورة سابقاً) يؤدي إلى التخفيف أو القضاء على أعراض الاكتئاب.

وهنالك عوامل عدة تساعد على حدوث هذه التغيرات الكيميائية في الدماغ، وهي:
المورثات: أشارت بعض الدراسات إلى أن لبعض أنواع الاكتئاب أسباباً وراثية لها علاقة بمورثات (جينات) معينة.
الشخصية: كذلك أشار بعض الدراسات إلى أن لأنواع معينة من الشخصية personality قابلية للإصابة بالاكتئاب.
المحيط والمجتمع: يؤدي فقدان شخص عزيز (سواء بسبب الموت أو السفر) وتدني الحالة الاقتصادية وفقدان وظيفة وتوترات أخرى، إلى إصابة الشخص بالاكتئاب. كذلك يؤدي الإيذاء الجسدي والجنسي والعاطفي في سن الطفولة إلى إصابة الطفل بالاكتئاب مستقبلاً. إضافة إلى أن الخلافات العائلية طويلة الأمد تؤدي إلى إصابة بعض أفراد العائلة بالاكتئاب.
الأمراض والأدوية: يؤدي الإصابة ببعض الأمراض المزمنة وتناول بعض الأدوية والإدمان على المخدرات إلى إصابة الشخص بالاكتئاب (اكتئاب ثانوي).
الشيخوخة: قد يؤدي فراغ البيت من الأبناء إلى معاناة المسن من الوحدة وفقدان الدعم المعنوي، وهذا قد يصيبه بالاكتئاب.

وهناك النظرية الهرمونية التي تنص على أن بعض التغيرات الهرمونية تؤدي إلى إصابة الشخص بالاكتئاب. فمثلاً، قد يؤدي الانخفاض المفاجئ لمستوى هرموني الأستروجين Estrogen والبروجسترون Progesterone بعد الولادة مباشرة، إلى إصابة المرأة الحامل باكتئاب ما بعد الوضع Postpartum Depression. وللحصول على المزيد من المعلومات حول هذا الموضوع، يرجى مراجعة مقال: “الاضطرابات المزاجية للأم بعد الولادة” للدكتور جابي كيفوركيان على الموقع الالكتروني www.Altibbi.com.

كذلك يلاحظ لدى وصول المرأة سن انقطاع الحيض (سن اليأس) انخفاض مستوى الهرمونات المذكورة سابقاً، والذي قد يؤدي بدوره إلى إصابة المرأة بالاكتئاب. وللمزيد من المعلومات حول هذا الموضوع أيضاً يرجى مراجعة مقال: “سن انقطاع الحيض” للدكتور جابي كيفوركيان على الموقع الالكتروني سالف الذكر.

الانتشارية

والاكتئاب أكثر الأمراض النفسية انتشاراً على المستوى العالمي، إذ انه يصيب أكثر من 150 مليون شخص في العالم. ويصيب الاكتئاب نحو 15 في المئة من النساء و 8 في المئة من الرجال (والسبب الذي يقف وراء ذلك هو التغييرات الهرمونية التي تتعرض لها المرأة في مراحل حياتها المختلفة). كذلك فإنه يصيب الناس في جميع الأعمار، غير أنه أكثر انتشاراً في الفئة العمرية 25 – 45 سنة (من كلا الجنسين).

وأما في فلسطين (قطاع غزة والضفة الغربية) فيصيب الاكتئاب نحو 17 في المئة من النساء و 18 في المئة من الرجال. وهذا يشير إلى أن الناس الذين يعيشون في مناطق النزاع والتوتر والخوف الدائم يصابون بالاكتئاب أكثر من غيرهم من سكان المناطق المستقرة سياسياً وعسكرياً. ويشير ذلك أيضاً إلى أن الرجال الذين يعيشون تحت الاحتلال يصابون بالإحباط واليأس والاكتئاب نتيجة تعرضهم للإهانات من قبل المحتل من جهة، ولعدم تمكنهم من توفير الأمان والحماية والمأكل والمشرب لعائلاتهم من جهة أخرى.

وللوقوف على النسبة الانتشارية للاكتئاب عند الأطفال راجع مقال: “إضاءة على الاضطرابات المزاجية عند الأطفال” للدكتور جابي كيفوركيان على الموقع الالكتروني www.Altibbi.com.

الأعراض العامة

يعتبر كل من المزاج الاكتئابي (حزن، وضيق) وفقدان الاستمتاع بمباهج الحياة، الأعراض الرئيسية للاكتئاب.

ومع ذلك فإن الاكتئاب يختلف من شخص إلى آخر، مع الحفاظ على بعض الأعراض والعلامات المشتركة للاكتئاب. وكلما زاد عدد هذه الأعراض وطالت مدتها، كلما زادت شدة الاكتئاب وبالتالي المعاناة.

وأما الأعراض والعلامات العامة للاكتئاب، فهي:
الشعور بالحزن واليأس والضيق.
اللامبالاة وعدم الاستمتاع بمباهج الحياة، التي اعتاد المريض أن يستمتع بها.
فقدان الرغبة الجنسية.
الخمول والشرود وعدم التركيز (وهذا قد يؤدي الى النسيان).
التردد في اتخاذ القرارات.
شعور المريض بأنه انسان تافه وعديم القيمة ويفقد الثقة بذاته.
الشعور بالذنب وتقريع الذات، بسبب وقوع حوادث مؤسفة من الصعب تفاديها أو تجنبها لا ذنب له فيها.
إرهاق عام وفقدان الدافع للقيام بأدنى جهد عقلي وجسدي.
غضب وهياج لأتفه الأمور.
عدم المقدرة على النوم (وأحياناً قد يكثر المريض منه).
فقدان الشهية لتناول الطعام (وأحياناً زيادتها).
البطء في الكلام والتفكير.
التفكير في التخلص من الحياة (وأحياناً قد ينجح في الانتحار).
شكاوى ومعاناة جسدية، دون وجود أسباب واضحة لها، مثل: ألم في اسفل الظهر والمفاصل وصداع.

الصورة السريرية

كما ذكرت سابقاً، فإن تردي المزاج وعدم التمتع بملذات الحياة، التي سبق واعتاد المريض على التمتع بها، يشكلان المحور الرئيسي للاكتئاب. وقد يصرح المريض بأنه يشعر بالحزن وفقدان الأمل وأنه شخص تافه وعديم القيمة.

ومن الملفت للنظر أن المزاج المكتئب يختلف عن المزاج الحزين الطبيعي، الذي يلي فقدان شخص عزيز، وأن الأول يعذب المريض، ويصفه بأنه عذاب مؤلم. كذلك فقد يشكو المريض المصاب بالاكتئاب من عدم مقدرته على البكاء وبأنه يتعذب ويقاسي. ويشير بعض الدراسات إلى أن 12 في المئة من مرضى الاكتئاب يقدمون على الانتحار، في حين يعاني 66 في المئة منهم من أفكار انتحارية.

وتضيف أن 98,5 في المئة من المرضى المكتئبين يعانون من تدني الطاقة والمجهود العقلي والجسدي، ويجدون صعوبة في إنهاء الواجبات والمهام الملقاة على عاتقهم، سواء كانوا مهنيين أو موظفين أو طلاب مدارس. فمثلاً نرى ربة البيت غير قادرة على القيام بواجباتها البيتية، مثل تحضير الطعام وتنظيف البيت…. الخ.

وتوضح أن نحو 81 في المئة من المرضى يعانون من عدم المقدرة على النوم، ويتمثل ذلك بالاستيقاظ المبكر عن الوقت المعتاد بنحو ساعتين، أو الاستيقاظ مرات عدة في الليل، ويكون هذا الأرق مصحوباً بالتفكير والقلق من وضعهم والمشاكل التي يعانون منها (فقدان وظيفة، فشل عاطفي، خوف…).

وتشير دراسات أخرى أن نسبة كبيرة من المرضى تعاني من فقدان الشهية للطعام، مصحوياً بفقدان أكثر من خمسة في المئة من وزن أجسامهم خلال شهر من الزمن، إضافة الى عدم المقدرة على النوم المريح والطبيعي. غير أن نسبة قليلة من المرضى يصابون بزيادة الشهية للطعام مع زيادة الوزن والإفراط في النوم. وقد ارتأى بعض العلماء والباحثين أنه من المناسب اعتبار هذه النسبة الضئيلة من المرضى بأنها تعاني من أعراض وعلامات شاذة عن بقية المرضى المصابين بالاكتئاب.

وتضيف أن نحو 93 في المئة من المرضى يعانون من القلق Anxiety إلى جانب معاناتهم من الاكتئاب، ومن أبرز صور القلق: الرهاب Phobia والفزع Panic والوسواس القهري.

وقد يؤدي إصابة النساء بالاكتئاب إلى اضطراب الحيض، ناهيك عن إصابة النساء والرجال بضعف الرغبة الجنسية. ويصاب العديد من المرضى بأعراض جسدية مثل: صداع وإمساك الغائط وألم في المفاصل.

وقد أشارت الدراسات إلى أن أعراض الاكتئاب عند 52 في المئة من المرضى تكون أكثر شدة في ساعات الصباح، في حين تقل في ساعات المساء.

وأما بخصوص الأعراض والعلامات المعرفية Cognitive فيصاب عدد لا بأس به من المرضى بما يسمى “الضبابية الدماغية”، إذ يشكو نحو 85 في المئة منهم من عدم التركيز، في حين يشكو 66 في المئة من خلل في التفكير.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى