الشاعر أبو القاسم الشابي

أبو القاسم الشابي

شاعر تونسيّ لُقّب بشاعر الخضراء، وُلِدَ عام 1909م في بلدة الشَّابة التابعة لولاية توزر في تونس، اتّسم أباه الشيخ محمد الشَّابي بالتقوى والصلاح، وكان يقضي معظم وقته متنقّلاً بين المسجد، والمحكمة، والمنزل، وقد أثّر هذا الأمر على طباع شاعرنا بشكل واضح؛ فنجده وقد حفظ القرآن الكريم، ثم التحق بجامعة الزيتونة وتخرَّج فيها عام 1928م، التحق بعدها بكليّة الحقوق بجامعة الزيتونة وحصل منها على ليسانس الحقوق عام 1930م.(1)

علم الشابي بمرض قلبه إثر تخرّجه من الجامعة، ولكن أعراض المرض لم تكن ظاهرة إلا عام 1929، ونزولاً عند رغبة والده بالزواج ذهب الشابي إل الطيبي لتشخيص مرضه، وعندما طمأنه الطبيب بقدرته على إتمام أمره، عزم الشابي على الزواج وعقد قرانه. (2)

ازدادت حالة الشابي الصحية سوءاً فيما بعد بسبب عوامل متعددة، منها تطور المرض الطبيعي مع الزّمن، وأحوال الطلاب السيئة في المساكن الخاصة بم في جامعة الزيتونة، إضافة إلى الصدمة التي تلقّاها بسبب موت محبوبته، فأهمل حياته الصحية بالبدن والفكر، التي نصحه أطباؤه بالاعتدال، إلا أنّ الدارسين لحياته أكّدوا ان الألم النفسيّ الذي لحق به هو ما أدّى إلى تدهور حالته الصحيّة. (3)

وفاته

نُقل الشابي إلى المستشفى إثر نوبة قلبية قبل وفاته بعدّة أيام، وتوفي في أكتوبر عام 1934، نقل جثمانه إلى توزر ودفن فيها. وقد حظي الشابي بعد موته بعناية كبيرة، ففي عام 1946 اُقيم له ضريح في تونس تخليداً له ولشعره ولكفاحه في الدفاع عن وطنه بالقلم والكلمة. (3)

شعره

اعتمد الشابي في شعره على أسلوبين: أسلوب فخم قوي النسج التزم به في المرحلة الأولى من نظمه للشعر، وخصّ به قصائده التي كتبها في الحكمة، والرثاء، والفخر. أمّا الأسلوب الثاني فهو أسلوب ليّن سهل خصّصه للقصائد الوجدانية والخيالية. وعليه، فقد ضمّت قصائده ذات الأسلوب الأول ألفاظاً جزلة وأخرى غريبة.

أمّا تراكيبه اللفظية فهي تجري مجريين: مجرى الأساليب العربية، ومجرى أكثر تحرّراً وانفلاتٍ من الأساليب العربية.

أما الأغراض الشعرية فهي محدودة، فهي وجدانية مرتبطة بالتأمل في الحياة، ونجد في ذلك الألفاظ التي تدل على كلّ غرض شعري، كالغابة، والعصفور، والورود، والفصول، وغيرها في الطبيعة. وفي الحياة الاجتماعية من سياسية ووطنية وحياة أدبية، وفي الحياة الماورائية لفظا الله والموت، إضافة إلى الموضوعات النفسية، والحب والغزل. (4)

من جميل شعره

من شعره الرائ، اخترنا لكم مجموعة قصائد كالآتي:

لحن الحياة

إذا الشـــعبُ يومًــا أراد الحيــاة

فــلا بــدّ أن يســتجيب القــدرْ

ولا بــــدَّ لليـــل أن ينجـــلي

ولا بــــدّ للقيـــد أن ينكســـرْ

ومــن لــم يعانقْـه شـوْقُ الحيـاة

تبخَّـــرَ فــي جوِّهــا واندثــرْ

فــويل لمــن لــم تَشُــقهُ الحيـا

ة مــن صفْعــة العــدَم المنتصـرْ

كـــذلك قــالت لــيَ الكائنــاتُ

وحـــدثني روحُهـــا المســـتترْ

ودمــدمتِ الــرِّيحُ بيــن الفِجـاج

وفــوق الجبــال وتحـت الشـجرْ:

إذا مـــا طمحــتُ إلــى غايــةٍ

ركــبتُ المُنــى، ونسِـيت الحـذرْ

ولــم أتجــنَّب وعــورَ الشِّـعاب

ولا كُبَّـــةَ اللّهَـــب المســـتعرْ

ومن يتهيب صعود الجبال

يعش أبَــدَ الدهــر بيــن الحــفرْ

فعجَّــتْ بقلبــي دمــاءُ الشـباب

وضجَّــت بصـدري ريـاحٌ أخَـرْ…

وأطـرقتُ، أصغـي لقصـف الرعـودِ

وعــزفِ الريــاحِ، ووقـعِ المطـرْ

وقـالت لـي الأرضُ – لمـا سـألت:

أيــا أمُّ هــل تكــرهين البشــرْ؟

أُبــارك فـي النـاس أهـلَ الطمـوح

ومــن يســتلذُّ ركــوبَ الخــطرْ

وألْعــنُ مــن لا يماشــي الزمـانَ

ويقنـــع بــالعيْشِ عيشِ الحجَــرْ

هــو الكــونُ حـيٌّ، يحـبُّ الحيـاة

ويحــتقر المَيْــتَ، مهمــا كــبُرْ

فـلا الأفْـق يحـضن ميْـتَ الطيـورِ

ولا النحــلُ يلثــم ميْــتَ الزهـرْ

ولــولا أمُومــةُ قلبِــي الــرّؤوم

لَمَــا ضمّــتِ الميْـتَ تلـك الحُـفَرْ

فــويلٌ لمــن لــم تشُــقه الحيـا

ة، مِــن لعنــة العــدم المنتصِـرْ!

وفــي ليلــة مـن ليـالي الخـريف

مثقَّلـــةٍ بالأســـى، والضجـــرْ

ســكرتُ بهـا مـن ضيـاء النجـوم

وغنَّيْــتُ للحُــزْن حــتى ســكرْ

سـألتُ الدُّجـى: هـل تُعيـد الحيـاةُ،

لمـــا أذبلتــه، ربيــعَ العمــرْ؟

فلـــم تتكـــلّم شــفاه الظــلام

ولــم تــترنَّمْ عــذارى السَّــحَرْ

وقــال لــيَ الغــابُ فــي رقَّـةٍ

مُحَبَّبَـــةٍ مثــل خــفْق الوتــرْ:

يجــئ الشــتاءُ، شــتاء الضبـاب

شــتاء الثلــوج، شــتاء المطــرْ

فينطفــئُ السِّـحرُ، سـحرُ الغصـونِ

وســحرُ الزهــورِ، وسـحرُ الثمـرْ

وســحرُ السـماءِ، الشـجيُّ، الـوديعُ

وســحرُ المـروجِ، الشـهيُّ، العطِـرْ

وتهـــوِي الغصــونُ، وأوراقُهــا

وأزهــارُ عهــدٍ حــبيبٍ نضِــرْ

وتلهــو بهـا الـريحُ فـي كـل وادٍ،

ويدفنُهَــا الســيلُ، أنَّــى عــبرْ

ويفنــى الجــميعُ كحُــلْمٍ بــديعٍ،

تـــألّق فـــي مهجــةٍ واندثــرْ

وتبقــى البــذورُ، التــي حُـمِّلَتْ

ذخــيرةَ عُمْــرٍ جــميلٍ، غَــبَرْ

وذكــرى فصــولٍ، ورؤيـا حيـاةٍ،

وأشــباحَ دنيــا، تلاشــتْ زُمَـرْ

معانقــةً – وهـي تحـت الضبـابِ،

وتحــت الثلـوجِ، وتحـت المَـدَرْ –

لِطَيْــفِ الحيــاةِ الــذي لا يُمَــلُّ

وقلــبِ الــربيعِ الشــذيِّ الخـضِرْ

وحالمـــةً بأغـــاني الطيـــورِ

وعِطْــرِ الزهــورِ، وطَعـمِ الثمـرْ

ويمشـي الزمـانُ، فتنمـو صـروفٌ،

وتــذوِي صــروفٌ، وتحيـا أُخَـرْ

وتُصبِـــحُ أحلامُهـــا يقظَـــةً،

مُوَشَّـــحةً بغمـــوضِ السَّــحَرْ

تُســائل: أيــن ضبـابُ الصبـاحِ،

وسِــحْرُ المسـاء؟ وضـوء القمـرْ؟

وأســرابُ ذاك الفَــراشِ الأنيــق؟

ونحــلٌ يغنِّــي، وغيــمٌ يمــرْ؟

وأيـــن الأشـــعَّةُ والكائنــاتُ؟

وأيــن الحيــاةُ التــي أنتظــرْ؟

ظمِئـتُ إلـى النـور، فـوق الغصونِ!

ظمِئـتُ إلـى الظـلِ تحـت الشـجرْ!

ظمِئـتُ إلـى النَّبْـعِ، بيـن المـروجِ،

يغنِّــي، ويــرقص فـوقَ الزّهَـرْ!

ظمِئــتُ إلــى نَغَمــاتِ الطيـورِ،

وهَمْسِ النّســيمِ، ولحــنِ المطــرْ

ظمِئـتُ إلـى الكـونِ! أيـن الوجـودُ

وأنَّـــى أرى العــالَمَ المنتظــرْ؟

هـو الكـونُ، خـلف سُـباتِ الجـمودِ

وفـــي أُفــقِ اليقظــاتِ الكُــبَرْ

ومـــا هــو إلا كخــفقِ الجنــا حِ

حــتى نمــا شــوقُها وانتصـرْ

فصَـــدّعت الأرضَ مــن فوقهــا

وأبْصــرتِ الكـونَ عـذبَ الصُّـوَرْ

وجـــاء الـــربيعُ، بأنغامِـــه،

وأحلامِـــه، وصِبـــاه العطِــرْ

وقبَّلهـــا قُبَـــلاً فــي الشــفاهِ

تعيــدُ الشــبابَ الــذي قـد غَـبَرْ

وقــال لهــا: قـد مُنِحْـتِ الحيـاةَ

وخُــلِّدْتِ فــي نســلكِ المُدّخَــرْ

وبـــاركَكِ النُّـــورُ، فاســتقبلي

شــبابَ الحيــاةِ وخِــصْبَ العُمـرْ

ومَــن تعبــدُ النــورَ أحلامُــه،

يُبَارِكُـــهُ النّــورُ أنّــى ظهــرْ

إليــكِ الفضــاءَ، إليــكِ الضيـاءَ

إليــك الــثرى، الحـالمَ، المزدهـرْ!

إليــكِ الجمــالَ الــذي لا يَبيــدُ!

إليــكِ الوجـودَ، الرحـيبَ، النضِـرْ!

فميـدي – كمـا شئتِ – فوق الحقولِ،

بحــلوِ الثمــارِ وغــضِّ الزّهَــرْ

ونــاجي النســيمَ، ونـاجي الغيـومَ،

ونــاجي النجــومَ، ونـاجي القمـرْ

ونـــاجي الحيـــاةَ وأشــواقَها،

وفتنــةَ هــذا الوجــود الأغــرْ

وشـفَّ الدجـى عـن جمـالٍ عميـقٍ،

يشُــبُّ الخيــالَ، ويُــذكي الفِكَـرْ

ومُــدّ عـلى الكـون سِـحرٌ غـريبٌ

يُصَرّفــــه ســـاحرٌ مقتـــدرْ

وضـاءت شـموعُ النجـومِ الوِضـاءِ،

وضــاع البَخُــورُ، بخـورُ الزّهَـرْ

ورفــرف روحٌ، غــريبُ الجمـال

بأجنحــةٍ مــن ضيــاء القمــرْ

ورنَّ نشـــيدُ الحيـــاةِ المقـــدّ

سُ فــي هيكـلٍ، حـالمٍ، قـد سُـحِرْ

وأعْلِــنَ فــي الكـون: أنّ الطمـوحَ

لهيـــبُ الحيــاةِ، ورُوحُ الظفَــرْ

إذا طمحـــتْ للحيـــاةِ النفــوسُ

فــلا بــدّ أنْ يســتجيبَ القــدر

عذبة أنتِ

عذْبة ٌ أنتِ كالطّفولة ِ، كالأحلامِ

كاللّحنِ، كالصباحِ الجديدِ

كالسَّماء الضَّحُوكِ كالليلة ِ القمراءِ

كالورد، كابتسام الوليدِ

يا لها من وَداعة ٍ وجمالٍ

وشبابٍ مُنَعَّم أمْلُودِ!

يا لها من طهارة ٍ، تبعثُ التقديـ

ـسَ في مهجة الشَّقيِّ العنيدِ!..

يالها رقَّة ً تكادُ يَرفُّ الوَرْ

دُ منها في الصخْرة ِ الجُلْمُودِ!

أيُّ شيء تُراكِ؟ هلى أنتِ “فينيسُ”

تَهادتْ بين الورى مِنْ جديدِ

لتُعيدَ الشَّبابَ والفرحَ المعسولَ

للْعالم التعيسِ العميدِ!

أم ملاكُ الفردوس جاء إلى الأر

ضِ ليُحييِ روحَ السَّلامِ العهيدِ!

أنتِ..، ما أنتِ؟ أنتِ رسمٌ جميلٌ

عبقريٌّ من فنِّ هذا الوجودِ

فيكِ ما فيه من غموضٍ وعُمقٍ

وجمالٍ مُقَدِّسٍ معبودِ

أنتِ.. ما أنتِ؟ أنتِ فَجْرٌ من السّحرِ

تجلّى لقلبيَ المعمودِ

فأراه الحياة َ في مونِق الحسن

وجلّى له خفايا الخلودِ

أنتِ روحُ الرَّبيعِ، تختالُ فـ

الدنيا فتهتزُّ رائعاتُ الورودِ

وتهبُّ الحياة سكرى من العِطْر،

ـر، ويدْوي الوجودُ بالتَّغْريدِ

كلما أبْصَرَتْكِ عينايَ تمشين

بخطوٍ موقَّعٍ كالنشيدِ

خَفَقَ القلبُ للحياة ، ورفّ الزّهـ

رُ في حقل عمريَ المجرودِ

وأنتشتْ روحي الكئيبة ُ بالحبِّ

وغنتْ كالبلبل الغرِّيدِ

أنتِ تُحِيينَ في فؤادي ما قد

ماتَ في أمسي السعيدِ الفقيدِ

وَتُشِيدينَ في خرائبِ روحي

ما تلاشى في عهديَ المجدودِ

من طموحِ إلى الجمالِ إلى الفنِّ،

إلى ذلك الفضاءِ البعيدِ

وتَبُثِّين رقّة َ الشوق، والأحلامِ

والشّدوِ، والهوى ، في نشيدي

بعد أن عانقتُ كآبة ُ أيَّامي

فؤادي، وألجمتْ تغريدي

أنت أنشودة ُ الأناشيد، غناكِ

إله الغناءِ، ربُّ القصيدِ

فيكِ شبّ الشَّبابُ، وشَّحهُ السِّحْرُ

وشدوُ الهوى ، وَعِطْرُ الورودِ

وتراءى الجمالُ، يَرْقُصَ رقصاً

قُدُسيَّا، على أغاني الوجودِ

وتهادتْ في لإُفْقِ روحِكِ أوْزانُ

الأغَاني، وَرِقّة ُ التّغريدِ

فَتَمايلتِ في الوجود، كلحنٍ

عبقريِّ الخيالِ حلوِ النشيدِ:

خطواتٌ، سكرانة ُ بالأناشيد،

وصوتٌ، كرجْع ناي بعيدِ

وَقوامٌ، يَكَادُ يَنْطُقُ بالألحان

في كلِّ وقفة ٍ وقعودِ

كلُّ شيءٍ موقَعٌ فيكِ، حتّى

لَفْتَة ُ الجيد، واهتزازُ النهودِ

أنتِ..، أنتِ الحياة ُ، في قدْسها

السامى ، وفي سحرها الشجيِّ الفريدِ

أنتِ..، أنتِ الحياة ُ، في رقَّة ِ

الفجر في رونق الرَّبيعِ الوليدِ

أنتِ..، أنتِ الحياة ً كلَّ أوانٍ

في رُواءِ من الشباب جديدِ

أنتِ..، أنتِ الحياة ُ فيكِ وفي عينَيْـ

وفي عيْنَيْكِ آياتُ سحرها الممدُودِ

أنتِ دنيا من الأناشيد والأحْلام

والسِّحْرِ والخيال المديدِ

أنتِ فوقَ الخيال، والشِّعرِ، والفنِّ

وفوْقَ النُّهَى وفوقَ الحُدودِ

أنتِ قُدْسي، ومَعبدي، وصباحي،

وربيعي، ونَشْوَتِي، وَخُلودي

يا ابنة َ النُّور، إنّني أنا وَحْدي

من رأى فيكِ رَوْعَة َ المَعْبُودِ

فدَعيني أعيشُ في ظِلّك العذْبِ

وفي قرْب حُسْنك المشهودِ

عيشة ً للجمال والفنّ والإلهام

والطُّهرْ، والسّنَى ، والسّجودِ

عيشة َ النَّاسِكِ البُتولِ يُنَاجي الرّ

بَّ في نشوَة ِ الذُّهول الشديدِ

وامنَحيني السّلامَ والفرحَ الرّو

حيَّ يا ضَوْءَ فجْريَ المنشودِ

وارحَميني، فقدْ تهدَّمتُ في كو

نٍ من اليأس والظلام مَشيدِ

أَنقذِيني من الأَسى ، فلقد أَمْسيـ

ـتُ لا أستطيعُ حملَ وجودي

في شِعَابِ الزَّمان والموت أمشي

تحت عبءِ الحياة جَمَّ القيودِ

وأماشي الورَى ونفسيَ كالقبرِ،

ـرِ، وقلبي كالعالم المهدودِ

ظُلْمَة ٌ، ما لها ختامٌ، وهولٌ

شائعٌ في شكونا الممدودِ

وإذا ما اسْتخفّني عَبَثُ النَّاس

تبسَّمتُ في أسَى ً وجُمُودِ

بسمة ً مُرَّة ً، كأنِّيَ أستلُّ

من الشَّوْك ذابلاتِ الورودِ

وانْفخي في مَشَاعِري مَرَحَ الدُّنيا

وشُدِّي مِنْ عزميَ المجهودِ

وابعثي في دمي الحَرارَة، عَلَّي

أتغنَّى مع المنى مِنْ جَديدِ

وأبثُّ الوُجودَ أنْغامَ قلبٍ

بُلْبُليٍّ، مُكَبَّلٍ بالحديدِ

فالصباحُ الجميلُ يُنعشُ بالدِّفءْ

حياة َ المحطَّمِ المكدودِ

أَنقذيني، فقد سئمتُ ظلامي!

أَنقذيني، فقد مللتُ ركودي

آهِ يا زَهرتي الجميلة ُ لو تَدْرِين

ما جَدَّ في فؤادي الوَحِيدِ

في فؤادي الغريبِ تُخْلَقُ أكوانٌ

من السحر ذات حسن فريد

وشموسٌ وضَّاءة ٌ ونجومٌ

تَنْثُرُ النُّورَ في فَضَاءٍ مديدِ

وربيعٌ كأنّه حُلُمُ الشّاعرِ

في سَكرة الشّباب السعيدِ

ورياضٌ لا تعرف الحَلَك الدَّاجي

ولا ثورة َ الخَريفِ العتيدِ

وَطُيورٌ سِحْرِيَّة ٌ تتناغَى

بأناشيدَ حلوة ِ التغريدِ

وقصورٌ كأَنَّها الشَّفَقُ المخضُوبُ

أو طلعة ُ الصباحِ الوليدِ

وغيومٌ رقيقة تَتَادَى

كأَباديدَ من نُثَارِ الورودِ

وحياة ٌ شعريَّة ٌ هي عندي

صورة ٌ من حياة ِ أهلِ الخلودِ

كلُّ هذا يشيدهُ سحرُ عينيكِ

وإلهامُ حسْنكِ المعبودِ

وحرامٌ عليكِ أن تَهْدمي ما

شَادهُ الحُسْنُ في الفؤاد العميدِ

وحرامٌ عليكِ أن تسْحَقي آمـ

ـالَ نفسٍ تصْبو لعيشٍ رغيدِ

منكِ ترجو سَعَادَة ً لم تجدْهَا

في حياة ِ الوَرَى وسحرِ الوجودِ

فالإلهُ العظيمُ لا يَرْجُمُ العَبْدَ

إذا كانَ في جَلالِ السّجودِ

أراكِ فتحلو الحياة

أراكِ، فَتَحْلُو لَدَيّ الحياة ُ

ويملأُ نَفسي صَبَاحُ الأملْ

وتنمو بصدرِي ورُودٌ، عِذابٌ

وتحنو على قلبيَ المشتعِلْ

ويفْتِنُني فيكِ فيضُ الحياة ِ

وذاك الشّبابُ، الوديعُ، الثَّمِلْ

ويفتنُني سِحْرُ تلك الشِّفاهِ

ترفرفُ منْ حولهنّ القُبَلْ

فأعبُدُ فيكِ جمالَ السّماء،

ورقَة َ وَرْدِ الرَّبيعِ، الخضِلْ

وطُهْرَ الثلوج، وسِحْرَ المروج

مُوَشَّحَة ً بشعاعِ الطَّفَلْ

أراكِ، فأُخْلَقُ خلْقاً جديداً

كأنّيَ لم أَبْلُ حربَ الوجودْ

ولم أحتمِلْ فيه عِبثاً، ثقيلاً

من الذِّكْريَاتِ التي لا تَبيدْ

وأضغاثِ أيّاميَ، الغابراتِ

وفيها الشَّقيُّ، وفيها السَّعيدْ

ويْغْمُرُ روحِي ضياءٌ،

رفيقٌ تُكَلّلهُ رَائعاتُ الورودْ

وتُسْمُعُني هَاتِهِ الكَائِنَاتُ

رقيقَ الأغاني، وحُلْوَ النشيدْ

وترقصُ حولِي أمانٍ، طِرابٌ

وأفراحُ عُمْرِ خَلِيٍّ، سَعيدْ

كأنِّيَ أصبَحْتُ فوقَ البَشَرْ

وتهتزُّ مثْلَ اهتزازِ الوتَرْ

فتخطو أناشيدُ قلبيَ، سكْرَى

تغرِّدُ، تَحْتَ ظِلالِ القَمَرْ

أوَدُّ بروحي عناقَ الوجودِ

بما فيه من أنفسٍ، أو شجرْ

وليلٍ يفرُّ، وفجرٍ يكرُّ

وغَيْمٍ، يُوَشِّي رداءَ السحرْ

المراجع

(1) بتصرّف عن مقالة أبو القاسم الشابي، hindawi.org

(2) بتصرّف عن نبذة حول الشاعر: أبو القاسم الشابي، adab.com

(3) ديوان أبي القاسم الشابي، قدّم له وشرحه الأستاذ أحمد حس، منشورات علي محمد بيضون، دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان، الطبعة الرابعة، 2005، ص7 بتصرّف

(4) شعر أبي القاسم الشابي في نظرية التلقّي، إعداد الطالبة آلاء داود محمد ناجي، بإشراف الدكتور محمد خليل الخلايلة، رسالة ماجستير، قسم اللغة العربية وآدابها، كليّة الآداب والعلوم، جامعة الشرق الأوسط، 2011-2012، ص 9-25 بتصرّف.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى